وقوله: «إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا» دليل على أن الإنسان لا يعرى من ذنب وتقصير كما قال عليه الصلاة والسلام: «استقيموا ولن تحصوا» وفي الحديث: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» وربما أخذوا ذلك من حيث الأمر بهذا القول مطلقا من غير تقييد وتخصيص بحالة فلو كان ثمة حالة لا يكون فيها ظلم ولا تقصير لما كان هذا الإخبار مطابقا للواقع فلا يؤمر به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يغفر الذنوب إلا أنت» إقرار بوحدانية الباري تعالى واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار كما قال تعالى: «علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب» وقد وقع في هذا الحديث امتثال لما أثنى الله تعالى عليه في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يغفر الذنوب إلا أنت» كقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
وقوله: «فاغفر لي مغفرة من عندك» فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون إشارة إلى التوحيد المذكورة كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت فافعله أنت.
والثاني:- وهو الأحسن-: أن يكون إشارة إلى طلب المغفرة متفضل بها من عند الله تعالى ولا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس للعبد فيها سبب وهذا تبرؤ من الأسباب والإدلال بالأعمال والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوبا عقليا والمغفرة الستر في لسان العرب والرحمة من الله تعالى- عند المنزهين من الأصوليين عن التشبيه- أما نفس الأفعال التي يوصلها الله تعالى من الإنعام والإفضال إلى العبد وأما إرادة إيصال تلك الأفعال إلى العبد فعلى الأول: هي من صفات الفعل وعلى الثاني هي من صفات الذات.
وقوله: «إنك أنت الغفور الرحيم» صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما قبله فالغفور مقابل لقوله: «فاغفر لي» والرحيم مقابل لقوله: «ارحمني» وقد وقعت المقابلة هاهنا للأول بالأول والثاني بالثاني وقد يقع على خلاف ذلك بأن يراعي القرب فيجعل الأول للأخير وذلك على حسب اختلاف المقاصد وطلب التفنن في الكلام ومما يحتاج إليه في علم التفسير: مناسبة مقاطع الآي لما قبلها والله أعلم.
6- عن عائشة رضي الله عنها قال: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]- إلا ويقول فيها: «سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي».
وفي لفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي».
حديث عائشة فيه مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى امتثال ما أمره الله تعالى به وملازمته لذلك.
وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد أن يسبح بنفس الحمد لما يتضمنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو التنزيه لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله تعالى وحده وفي ذلك نفي الشركة.
الوجه الثاني: أن يكون المراد: فسبح متلبسا بالحمد فتكون الباء دالة على الحال وهذا يترجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سبح وحمد بقوله «سبحانك وبحمدك» وعلى مقتضى الوجه الأول: يكتفي بالحمد فقط وكأن تسبيح الرسول على هذا الوجه دليلا على ترجيح المعنى الثاني.
وقوله: «وبحمدك» قيل معناه: وبحمدك سبحت وهذا يحتمل أن يكون فيه حذف أي بسبب حمد الله سبحت ويكون المراد بالسبب ههنا: التوفيق والإعانة على التسبيح واعتقاد معناه وهذا كما روى عن عائشة في الصحيح: «بحمد الله لا بحمدك» أي وقع هذا بسبب حمد الله أي بفضله وإحسانه وعطائه فإن الفضل والإحسان سبب للحمد فيعبر عنهما بالحمد.
وقوله: «اللهم اغفر لي» امتثال لقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] بعد امتثال قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] وأما اللفظ الآخر: فإنه يقتضي الدعاء في الركوع وإباحته ولا يعارضه قوله عليه السلام: «أما الركوع: فعظموا فيه الرب وأما السجود: فاجتهدوا فيه بالدعاء» فإنه من هذا الحديث الجواز ومن ذلك الأولوية بتخصيص الركوع بالتعظيم ويحتمل أن يكون السجود قد أمر فيه بتكثير الدعاء لإشارة قوله: «فاجتهدوا» واحتمالها للكثرة والذي وقع في الركوع من قوله: «اغفر لي» ليس كثيرا فليس فيه معارضة ما أمر به في السجود.
وفي حديث عائشة الأول سؤال وهو أن لفظة إذا تقتضي الاستقبال وعدم حصول الشرط حينئذ وقول عائشة: (ما صلى بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1]) يقتضي تعجيل هذا القول لقرب الصلاة الأولى التي هي عقيب نزول الآية من النزول والفتح أي فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا يحتاج إلى مدة أوسع من الوقت الذي بعد نزول الآية والصلاة الأولى بعده.
وقول عائشة في بعض الروايات يتأول القرآن قد يشعر بأنه يفعل ما أمر به فيه فإن كان الفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا حاصلا عند نزول الآية فكيف يقال فيها إذا جاء وإن لم يكن حاصلا فكيف يكون القول امتثالا للأمر الوارد بذلك ولم يوجد شرط الأمر به؟.
وجوابه: أن نختار أنه لم يكن حاصلا على مقتضى اللفظ ويكون صلى الله عليه وسلم قد بادر إلى فعل المأمور به قبل وقوع الزمن الذي تعلق به الأمر فيه إذ ذلك عبادة بادر إلى فعل المأمور به قبل وقوع الزمن الذي تعلق به الأمر فيه إذ ذلك عبادة وطاعة لا تختص بوقت معين فإذا وقع الشرط كان الواقع من هذا القول- بعد وقوعه- واقعا على حسب الامتثال وقبل وقوع الشرط واقعا على حسب التبرع وليس في قول عائشة يتأول القرآن ما يقتضي- ولابد- أن يكون جميع قوله صلى الله عليه وسلم على جهة الامتثال للمأمور حتى يكون دالا على وقوع الشرط بل مقتضاه: أن يفعل تأويل القرآن وما دل عليه لفظ فقط وجاز أن يكون بعض هذا القول فعلا لطاعة مبتدأة وبعضه امتثالا للأمر والله أعلم.
.باب الوتر:
الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل؟ قال: «مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى وإنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا».
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى» وأخذ به مالك رحمه الله في أنه لا يزاد في صلاة التنفل على ركعتين وهو ظاهر في اللفظ في صلاة الليل وقد ورد حديث آخر: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» وإنما قلنا: إنه ظاهر اللفظ لأن المبتدأ محصور في الخبر فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى وذلك هو المقصود إذ هو ينافي الزيادة فلو جازت الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى.
وهذا يعارضه ظاهر حديث عائشة الآتي وقد أخذ به الشافعي وأجاز الزيادة على ركعتين من غير حصر في العدد وذكر بعض مصنفي أصحابه شرطين في ذلك وحاصل قوله: أنه متى تنفل بأزيد من ركعتين شفعا أو وترا فلا يزيد على تشهدين ثم إن كان المتنفل به شفعا فلا يزيد بين التشهدين على ركعتين وإن كان وترا فلا يزيد بين التشهدين على ركعة.
فعلى هذا إذا تنفل بعشر جلس بعد الثامنة ولا يجلس بعد السابعة ولا بعد ما قبلها من الركعات لأنه حينئذ يكون قد زاد على ركعتين بين التشهدين فإذا تنفل بخمس مثلا جلس بعد الرابعة وبعد الخامسة إن شاء أو بسبع فبعد السادسة والسابعة وإن اقتصر على جلوس واحد في كل ذلك جاز.
وإنما ألجأه إلى ذلك: تشبيه النوافل بالفرائض والفريضة الوتر هي صلاة المغرب وليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعة ولم يتفق أصحاب الشافعي على هذا الذي ذكره.
الوجه الثاني من الكلام على الحديث: أنه كان يقتضي ظاهره عدم الزيادة على ركعتين فكذلك يقتضي عدم النقصان منهما وقد اختلفوا في التنفل بركعة فردة والمذكور في مذهب الشافعي: جوازه وعن أبي حنيفة: منعه والاستدلال به لهذا القول كما تقدم وهو أولى من استدلال من استدل على ذلك بأنه لو كانت الركعة الفردة صلاة لما امتنع قصر صلاة الصبح والمغرب فإن ذلك ضعيف جدا.
الوجه الثالث: يقتضي الحديث تقديم الشفع على الوتر من قوله: «صلاة الليل مثنى مثنى» وقوله: «توتر له ما صلى» فلو أوتر بعد صلاة العشاء من غير شفع لم يكن آتيا بالسنة وظاهر مذهب مالك أنه لا يوتر بركعة فردة هكذا من غير حاجة.
الوجه الرابع: يفهم منه انتهاء وقت الوتر بطلوع الفجر من قوله: «فإذا خشي أحدكم الصبح» وفي مذهب الشافعي وجهان أحدهما: أنه ينتهي بطلوع الفجر والثاني: ينتهي بصلاة الصبح.
الوجه الخامس: قد يستدل بصيغة الأمر من يرى وجوب الوتر فإن كان يرى بوجوب كونه آخر صلاة الليل فاستدلال قريب ولا أعلم أحدا قال ذلك وإن كان لا يرى بذلك فيحتاج أن يحمل الصيغة على الندب ولا يستقيم الاستدلال بها على وجوب أصل الوتر عند من يمنع من استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز وإلا كان جمعا بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة وهي صيغة الأمر.
الوجه السادس: يقتضي الحديث أن يكون الوتر آخر صلاة الليل فلو أوتر ثم أراد التنفل فهل يشفع وتره بركعة أخرى ثم يصلي؟ فيه وجهان للشافعية وإن لم يشفعه بركعة ثم تنفل فهل يعيد الوتر أخيرا؟ فيه قولان للمالكية فيمكن كل واحد من الفريقين أن يستدل بالحديث بعد تقديم مقدمة لكل منهما يحتاج إلى إثباتها.
أما من قال إنه يشفع وتره فيقول: الحديث يقتضي أن يكون آخر صلاة الليل وترا وذلك يتوقف على أن لا يكون قبله وتر لما جاء في الحديث: «لا وتران في الليلة» فلزم عن ذلك: أن يشفع الوتر الأول فإنه أن لم يشفعه وأعاد الوتر لزم وتران في ليلة وإن لم يعد الوتر لم يكن آخر صلاة الليل وترا.
وأما من قال: لا يشفع ولا يعيد الوتر فلأنه منع أن ينعطف حكم صلاة على أخرى بعد السلام والحديث وطول الفصل إن وقع ذلك فإذا لم يجتمعا فالحقيقة أنهما وتران ولا وتران في ليلة فامتنع الشفع وامتنع إعادة الوتر أخيرا ولم يبق إلا مخالفة ظاهر قوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» ولا يحتاج إلى الاعتذار وهو محمول على الاستحباب كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك وترك المستحب أولى من ارتكاب المكروه.
وأما من قال بالإعادة: فهو أيضا مانع من شفع الوتر للأول محافظة على قوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» ويحتاج إلى الاعتذار عن قوله: «ولا وتران في ليلة».
واعلم أنه ربما يحتاج في هذه المسألة إلى مقدمة أخرى وهو أن التنفل بركعة فردة: هل يشرع؟ فعليك بتأمله.
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر).
اختلفوا في أن الأفضل تقديم الوتر في أول الليل أو تأخيره إلى آخره؟ على وجهين لأصحاب الشافعي مع الاتفاق على جواز ذلك.
وحديث عائشة يدل على الجواز في الأول والوسط والآخر ولعل ذلك كان بحسب اختلاف الحالات وطرو الحاجات وقيل: بالفرق بين من يرجو أن يقوم في آخر الليل وبين من يخاف أن لا يقوم والأول تأخيره أفضل والثاني: تقديمه أفضل.
ولا شك أنا إذا نظرنا إلى آخر الليل من حيث هو كذلك كانت الصلاة فيه أفضل من أوله لكن إذا عارض ذلك احتمال تفويت الأصل قدمناه على فوات الفضيلة وهذه قاعدة قد وقع فيها خلاف ومن جملة صورها: ما إذا كان عادم الماء يرجو وجوده في آخر الوقت فهل يقدم التيمم في أول الوقت إحرازا للفضيلة المحققة أم يؤخره إحرازا للوضوء؟ فيه خلاف: والمختار في مذهب الشافعي أن التقديم أفضل فعليك بالنظر في التنظير بين المسألتين والموازنة بين الصورتين.
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها).
هذا كما قدمناه يتمسك به في جواز الزيادة على ركعتين في النوافل وتأوله بعض المالكية بتأويل لا يتبادر إلى الذهن وهو أن حمل ذلك على أن الجلوس في محل القيام لم يكن إلا في آخر ركعة كأن الأربع كانت الصلاة فيها قياما والأخيرة كانت جلوسا في محل القيام وربما دل لفظه على تأويل أحاديث قدمها هذا منها بأن السلام وقع بين ركعتين وهذا مخالفة للفظ فإنه لا يقع السلام بين كل ركعتين إلا بعد الجلوس وذلك ينافيه قولها: (لا يجلس إلا في آخرها) وفي هذا نظر.
واعلم أن محط النظر هو الموازنة بين الظاهر من قوله عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى» في دلالته على الحصر وبين دلالة هذا الفعل على الجواز والفعل يتطرق إليه الخصوص إلا أنه بعيد لا يصار إليه إلا بدليل فتبقى دلالة الفعل على الجواز معارضة بدلالة اللفظ على الحصر ودلالة الفعل على الجواز عندنا أقوى نعم يبقى نظر آخر وهو أن الأحاديث دلت على جواز أعداد مخصوصة فإذا جمعناها ونظرنا أكثرها فما زاد عليه إذا قلنا بجوازه كان قولا بالجواز مع اقتضاء الدليل منعه من غير معارضة الفعل له.
فلقائل أن يقول: يعمل بدليل المنع حيث لا معارض له من الفعل إلا أن يصد عن ذلك إجماع أو يقوم دليل على أن الأعداد المخصوصة ملغاة عن الاعتبار ويكون الحكم الذي دل عليه الحديث مطلق الزيادة فهنا يمكن أمران:
أحدهما: أن نقول مقادير العبادات يغلب عليها التعبد فلا يجزم بأن المقصود مطلق الزيادة.
والثاني: أن يقول المانع المخل هو الزيادة على مقدار الركعتين وقد ألغي بهذه الأحاديث ولا يقوى كثيرا والله عز وجل أعلم.