منها: ما دل عليه أول هذا الحديث من أنه أرسل إلى جهة أخرى لكشفها وكان الالتقاء بعد مضي مكان الميقات.
ومنها: أنه قبل توقيت الميقات.
والأتان: الأنثى من الحمار وقولهم: (نأكل من لحم صيد ونحن محرمون) ورجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: دليل على أمرين:
أحدهما: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أكلوه باجتهاد.
والثاني: وجوب الرجوع إلى النصوص عند تعارض الأشباه والاحتمالات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها» فيه دليل على أنهم لو فعلوا ذلك لكان سببا للمنع.
وقوله عليه السلام: «فكلوا ما بقي من لحمها» دليل على جواز أكل المحرم لحم الصيد إذا لم يكن من دلالة ولا إشارة وقد اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد على مذاهب.
أحدها: أنه ممنوع مطلقا صيد لأجله أو لا وهذا مذكور عن بعض السلف ودليله: حديث الصعب على ما سنذكره.
والثاني: إنه ممنوع إن صاده أو صيد لأجله سواء كان بإذنه أو بغير إذنه وهو مذهب مالك والشافعي.
والثالث: إنه إن كان باصطياده أو بإذنه أو بدلالته حرم وإن كان على غير ذلك: لم يحرم.
وحديث أبي قتادة- هذا- يدل على جواز أكله في الجملة وهو على خلاف مذهب الأول ويدل ظاهره: على أنه إذا لم يشر المحرم إليه ولا دل عليه: يجوز أكله فإنه ذكر الموانع المانعة من أكله والظاهر: أنه لو كان غيرها مانعا لذكر.
وإنما احتج الشافعي على تحريم ما صيد لأجله مطلقا وإن لم يكن بدلالته وإذنه: بأمور أخرى منها: حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لحم الصيد لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم».
والذي في الرواية الأخرى: من قوله عليه السلام: «هل معكم منه شيء؟» فيه أمران:
أحدهما: تبسط الإنسان إلى صاحبه في طلب مثل هذا.
والثاني: زيادة تطييب قلوبهم في موافقتهم في الأكل وقد تقدم لنا قوله عليه السلام: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» والإشارة إلى أن ذلك لطلب موافقتهم في الحلق فإنه كان أطيب لقلوبهم.
2- عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء- أو بودان- فرده عليه فلما رأى ما في وجهي قال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) وفي لفظ لمسلم: «رِجْلُ حِمَارٍ» وفي لفظ: «شق حمار» وفي لفظ: «عجز حمار».
ووجه هذا الحديث: أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله.
الصعب بالصاد المهملة والعين المهملة أيضا وجثامة بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة وفتح الميم.
وقوله: (أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) الأصل: أن يتعدى أهدى بإلى وقد يتعدى باللام ويكون بمعناه وقد يحتمل أن تكون اللام بمعنى أجل وهو ضعيف.
وقوله: (حمارا وحشيا) ظاهره: أنه أهداه بجملته وحمل على أنه كان حيا وعليه يدل تبويب البخاري رحمه الله وقيل: إنه تأويل مالك رحمه الله وعلى مقتضاه: يستدل بالحديث على منع وضع المحرم يده على الصيد بطريق التملك بالهدية ويقاس عليها: ما في معناها من البيع.
والهبة إلا أنه رد هذا التأويل بالروايات التي ذكرها المصنف عن مسلم من قوله عجز حمار أو شق حمار أو رجل حمار فإنها قوية الدلالة على كون المهدى بعضا وغير حي فيحتمل قوله: (حمارا وحشيا) المجاز وتسمية البعض باسم الكل أو فيه حذف مضاف ولا تبقى فيه دلالة على ما ذكره من تملك الصيد بالهبة على هذا التقدير.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم»
«إنا» الأولى مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية والثانية مفتوحة: لأنها حذف منها اللام التي للتعليل وأصله: إلا لأنا.
وقوله: «لم نرده» المشهور عند المحدثين: فيه فتح الدال وهو خلاف مذهب المحققين من النحاة ومقتضى مذهب سيبيويه وهم ضم الدال وذلك في كل مضاعف مجزوم أو موقوف اتصل به هاء ضمير المذكر وذلك معلل عندهم بأن الهاء حرف خفي فكأن الواو تالية للدال لعدم الاعتداد بالهاء وما قبل الواو: يضم وعبروا عن ضمتها لما بعدها وهذا بخلاف ضمير المؤنث إذا اتصل بالمضاعف المشدد فإنه يفتح باتفاق وحكى في مثل هذا الأول الموقوف لغتان أخريان إحداهما: الفتح كما يقول المحدثون والثانية: الكسر وأنشد فيه:
قال أبو ليلى لحبلى: مده **حتى إذا مددته فشده
إن أبا ليلى نسيج وحده
وقوله عليه السلام: «إلا أنا حرم» يتمسك به في منع أكل المحرم لحم الصيد مطلقا فإنه علل بمجرد الإحرام والذين أباحوا أكله: لا يكون مجرد الإحرام عندهم علة وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده لأنه صيد لأجله جمعا بينه وبين حديث أبي قتادة والحرم جمع حرام.
والأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد وودان فتح الواو وتشديد الدال آخره نون: موضعان معروفان فيما بين مكة والمدينة.
ولمسألة أكل المحرم الصيد تعلق بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] وهل المراد بالصيد: نفس الاصطياد أو المصيد؟ وللاستقصاء فيه موضع غير هذا ولكن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حرم قد يكون إشارة إليه.
وفي اعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للصعب: تطييب لقلبه لما عرض له من الكراهة في رد هديته ويؤخذ منه: استحباب مثل ذلك من الاعتذار.
وقوله: «فلما رأى ما في وجهي» يريد من الكراهة بسبب الرد.
.كتاب البيوع:
.مدخل:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع».
وما في معناه من حديث حكيم بن حزام وهو:
2- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا- أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما».
الحديث: يتعلق بمسألة إثبات خيار المجلس في البيع وهو يدل عليه وبه قال الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث ونفاه مالك وأبو حنيفة ووافق ابن حبيب- من أصحاب مالك- من أثبته والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه والذي يحضرنا الآن من ذلك وجوه:
أحدها: أنه حديث خالفه راويه وكل ما كان كذلك: لم يعمل به.
أما الأول: فلأن مالكا رواه ولم يقل به.
وأما الثاني: فلأن الراوي إذا خالف فإما أن يكون مع علمه بالصحة فيكون فاسقا فلا تقبل روايته وإما أن يكون لا مع علمه بالصحة فهو أعلم بعلل ما روى فيتبع في ذلك.
وأجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: منع المقدمة الثانية وهو أن الراوي إذا خالف لم يعمل بروايته وقوله إذا كان مع علمه بالصحة كان فاسقا ممنوع لجواز أن يعلم بالصحة ويخالف لمعارض راجح عنده ولا يلزم تقليده فيه وقوله إن كان لا مع علمه بالصحة وهو أعلم بروايته فيتبع في ذلك ممنوع أيضا لأنه إذا ثبت الحديث بعدالة النقلة وجب العمل به ظاهرا فلا يترك بمجرد الوهم والاحتمال.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث مروي من طرق فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية مالك لم يتعذر من جهة أخرى وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ- أعني أن مخالفة الراوي لروايته تقدم في العمل بها- فإنه على هذا التقدير: يتوقف العمل برواية مالك ولا يلزم من بطلان مأخذ معين بطلان مأخذ الحكم في نفس الأمر.
الوجه الثاني من الاعتذارات: أن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول فهذا غير مقبول.
أما الأول: لأن البياعات مما تتكرر مرات لا تحصى ومثل هذا تعم البلوى بمعرفة حكمه وأما الثاني: فلأن العادة تقتضي أن ما عمت به البلوى يكون معلوما عند الكافة فانفراد الواحد به على خلاف العادة فيرد.
وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.
أما الأولى- وهو أن البيع بما تعم به البلوى- فالبيع كذلك ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البياعات فإن الظاهر من الإقدام على البيع: الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة.
وأما الثانية: فلأن المعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية وقد وجد ذلك وعدم نيل غيره لا يصلح معارضا لجواز عدم سماعه للحكم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين وعلى تقدير السماع: فجائز أن يعرض مانع من النقل أعني نقل غير هذا الراوي فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفى الشيء عن أهل التواتر وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل.
الوجه الثالث من الاعتذارات: هذا حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها وما كان كذلك لا يعمل به.
أما الأول: فنعني بمخالف الأصول القياسية: ما ثبت الحكم في أصله قطعا وثبت كون الفرع في معنى المنصوص لم يخالف إلا فيما يعلم عروة عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم وهاهنا كذلك فإن منع الغير من إبطال حق الغير: ثابت بعد التفرق قطعا وما قبل التفرق في معناه لم يفترقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة.
وأما الثاني: فلأن القاطع مقدم على المظنون لا محالة وخبر الواحد مظنون وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.
أما الأولى: فلا نسلم عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما لا يعتبر من المصالح وذلك لأن البيع يقع بغتة من غير ترو وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه فيناسب إثبات الخيار لكل.
واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته الخيار لكل واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته مطلقا فيما بعد التفرق وقبله فإنه رفع لحكمة العقد والوثوق بالتصرف فجعل مجلس العقد حريما لاعتبار هذه المصلحة وهذا معنى معتبر لا يستوي فيه ما قبل التفرق مع ما بعده.
وأما الثانية: فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد فإن الأصل يثبت بالنصوص والنصوص ثابتة في الفروع المعينة وغاية ما في الباب أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها أو تعبدا فيجب اتباعه.
الوجه الرابع من الاعتذارات: هذا حديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم وما كان كذلك يقدم عليه العمل فهذا يقدم عليه العمل.
أما الأول: فلأن مالكا قال عقيب روايته وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به فيه.
وأما الثاني: فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم في مهبط الوحي ووفاة الرسول بين أظهرهم ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل راجح ولا تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: منع المقدمة الأولى وهو كون المسألة من إجماع أهل المدينة وبيانه من ثلاثة أوجه:
منها: أنا تأملنا لفظ مالك فلم نجده مصرحا بأن المسألة إجماع أهل المدينة ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه.
ومنها: أن هذا الإجماع إما أن يراد به إجماع سابق أو لاحق والأول باطل لأن ابن عمر رأس المفتين في المدينة في وقته وقد كان يرى إثبات خيار المجلس.
والثاني: أيضا باطل فإن ابن أبي ذئب- من أقران مالك ومعاصريه- وقد أغلظ على مالك لما بلغه مخالفته للحديث.