وأما الاعتراض الرابع: فإنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه وهاهنا هذه الصورة انفردت عن غيرها لأن الغالب: أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة المجتمع بأصل الخلفة المجتمع بأصل الخلقة واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب.
وأما الاعتراض الخامس: فقد قيل فيه: إن الخبر وارد على العادة والعادة: أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف وقيل: إن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العضو والمعوض.
وأما الاعتراض السادس: فقد قيل في الجواب عنه: إن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقاتلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض.
وأما الاعتراض السابع: فجوابه فيما قيل: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للبائع والآخر للمشتري وتعذر الرد لا يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو عصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد.
وأما الاعتراض الثامن: فقيل فيه: إن الخيار يثبت بالتدليس كما لو باع رحا دائرة بماء قد جمعه لها ولم يعلم به.
وأما المقام الثاني- وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد- فقيل فيه: إن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول: نص صاحب الشرع عليها وهو موجود في خبر الواحد فيجب اعتباره وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا: فتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محل الخبر من ذلك الأصل.
وعندي: أن التمس بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول.
ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الاعتذار عن الحديث وهي ادعاء النسخ وأنه يجوز أن يكون ذلك من حيث كانت العقوبة بالمال جائزة وهو ضعيف فإنه إثبات نسخ بالاحتمال والتقدير وهو غير سائغ ومنهم من قال: يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلا وشرط الخيار فالشرط باطل فاسد فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا بطل وأما رد الصاع: فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت.
وأجيب عنه: بأن الحديث يقتضي تعليق الحكم بالتصرية وما ذكر يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء أحدث التصرية أم لا.
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع حبل الحبلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها.
قيل: إنه كان يبيع الشارف- وهي الكبيرة المسنة- بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته».
في تفسير حبل الحبلة وجهان:
أحدهما: أن يبيع إلى أن تحمل الناقة وتضع ثم يحمل هذا البطن الثاني وهذا باطل لأنه يبيع إلى أجل مجهول.
والثاني: أن يبيع نتاج النتاج وهو باطل أيضا لأنه بيع معدوم وهذا البيع كانت الجاهلية تتبايعه فأبطله الشارع للمفسدة المتعلقة به وهو ما بيناه من أحد الوجهين وكأن السر فيه: أنه يفضي إلى أكل المال بالباطل أو إلى التشاجر والتنازع المتنافي للمصلحة الكلية.
4- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول صلى الله عليه وسم: «نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع».
أكثر الأمة على أن هذا النهي: نهي تحريم والفقهاء أخرجوا من هذا العموم: بيعها بشرط القطع واختلفوا في بيعها مطلقا من غير شرط ولا إبقاء ولمن يمنعه أن يستدل بهذا الحديث فإنه إذا خرج من عمومه بيعها بشرط القطع يدخل باقي صور البيع تحت النهي ومن جملة صور البيع: بيع الإطلاع وممن قال بالمنع فيه: مالك والشافعي.
وقوله: «نهى البائع والمشتري» تأكيد لما فيه من بيان أن البيع- وإن كان لمصلحة الإنسان- فليس له أن يرتكب النهي فيه قائلا: أسقطت حقي من اعتبار المصلحة ألا ترى أن هذا المنع لأجل مصلحة المشتري؟ فإن الثمار قبل بدو الصلاح معرضة للعاهات فإذا طرأ عليها شيء منها حصل الإجحاف بالمشتري في الثمن لأذي بذله ومع هذا: فقد منعه الشرع ونهى المشتري كما نهى البائع وكأنه قطع النزاع والتخاصم ومثل هذا في المعنى: حديث أنس الذي بعده.
5- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الثمار حتى تزهي» قيل: وما تزهي؟ قال«حتى تحمر», قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟».
والإزهاء: تغير لون الثمرة في حالة الطيب والعلة- والله أعلم- ما ذكرناه من تعرضها للجوائح قبل الإزهاء وقد أشار في هذه الرواية بقوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت إن منع الله الثمرة بما يستحل أحدكم مال أخيه؟» والحديث يدل على أنه يكتفى بمسمى الإزهاء وابتدائه من غير اشتراط تكامله لأنه جعل مسمى الإزهاء غاية للنهي وبأوله يحصل المسمى ويحتمل أن يستدل به على العكس لأن الثمرة المبيعة قبل الإزهاء- أعني ما لم يزه من الحائط- إذا دخل تحت اسم الثمرة فيمتنع بيعه قبل الإزهاء فإن قال بهذا أحد فله أن يستدل بذلك.
وفيه دليل على أن زهو بعض الثمرة كاف في جواز البيع من حيث إنه ينطلق عليها أنها أزهت بعضها مع حصول المعنى وهو الأمن من العاهة غالبا ولولا وجود المعنى كان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها: قد لا يكتفي به لكونه مجازا وقد يستدل بقوله عليه السلام: «أرأيت إن منع الله الثمرة بما يأخذ أحدكم مال أخي؟» على وضع الجوائح كما جاء في حديث آخر.
6- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد.
قال: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارا.
وقد تقدم الكلام في النهي عن تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي وتفسيرهما والذي زاد هذا الحديث: تفسير بيع الحاضر للبادي وفسر بأن يكون له سمسارا.
7- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما: أن يبيعه بزبيب كيلا أو كان زرعا: أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله.
المزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع وحقيقتها: بيع معلوم بمجهول من جنسه وقد ذكر في الحديث لها أمثلة من بيع الثمر بالتمر ومن بيع الكرم بالزبيب ومن بيع الزرع بكيل الطعام وإنما سميت مزابنة من معنى الزبن لما يقع من الاختلاف بين المتبايعين فكل واحد يدفع صاحبه عما يرومه منه.
8- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة وعن المزابنة وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وأن لا تباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا.
المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة.
9- عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن).
اختلفوا في بيع الكلب المعلم فمن يرى نجاسة الكلب- وهو الشافعي- يمنع من بيعه مطلقا لأن على المنع قائمة في العلم وغيره ومن يرى بطهارته: اختلفوا في بيع المعلم منه لأن علة المنع غير عامة عند هؤلاء وقد ورد في بيع المعلم منه حديث في ثبوته بحث يحال على علم الحديث.
وأما مهر البغي فهو ما يعطاها على الزنا.
وسمى مهرا على سبيل المجاز أو استعمالا للوضع اللغوي ويجوز أن يكون من مجاز التشبيه إن لم يكن المهر في الوضع: ما يقابل النكاح.
وحلوان الكاهن هو ما يعطاه على كهانته والإجماع قائم على تحريم هذين لما في ذلك من بذل الأعواض فيما لا يجوز مقابلته بالعوض أما الزنا: فظاهر وأما الكهانة: فبطلانها وأخذ العوض عنها: من باب أكل المال بالباطل وفي معناها كل ما يمنع منه الشرع من الرجم بالغيب.
10- عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث».
إطلاق الخبيث على ثمن الكلب يقتضي التعميم في كل كلب فإن ثبت تخصيص شيء منه وإلا وجب إجراؤه على ظاهره والخبيث من حيث هو: لا يدل على الحرمة صريحا ولذلك جاء في كسب الحجام أنه خبيث ولم يحمل على التحريم غير أن ذلك بدليل خارج وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: «احتجم وأعطى الحجام أجره2 ولو كان حراما لم يعطه» فإن ثبت أن لفظة الخبث ظاهرة في الحرام فخروجها عن ذلك في كسب الحجام بدليل: لا يلزم منه خروجها في غيره بغير دليل.
وأما الكلب فإذا قيل بثبوت الحديث الذي يدل على جواز بيع كلب الصيد: كان ذلك دليلا على طهارته وليس يدل النهي عن بيعه على نجاسته لأن علة منع البيع: متعددة لا تنحصر في النجاسة.
.باب العرايا وغير ذلك:
1- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية: أن يبيعها بخرصها).
ولمسلم: «بخرصها تمرا يأكلونها رطبا».
اختلفوا في تفسير العرية المرخص فيها فعند الشافعي: هو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خرصا فيما دون خمسة أوسق وعند مالك صورته: أن يعري الرجل- أي يهب- ثمرة نخلة أو نخلات ثم يتضرر بمداخلة الموهوب له فيشتريها منه بخصرها تمرا ولا يجوز ذلك لغير رب البستان ويشهد لهذا التأويل أمران:
أحدهما: أن العرية مشهورة بين أهل المدينة متداولة فيما بينهم وقد نقلها مالك هكذا.
والثاني: قوله لصاحب العربية فإنه يشعر باختصاصه بصفة يتميز بها عن غيره وهي الهبة الواقعة وأنشدوا في تفسير العرايا بالهبة قول الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ** ولكن عرايا في السنين الجوائح
وقوله في الحديث بخرصها في هذه الرواية تقيد بغيرها وهو بيعها بخرصها تمرا.
وقد يستدل بإطلاق هذه الرواية لمن يجوز بيع الرطب على النخل بالرطب على النخل خرصا فيهما وبالرطب على وجه الأرض كيلا وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي والأصح: المنع لأن الرخصة وردت للحاجة إلى تحصيل الرطب وهذه الحاجة لا توجد في حق صاحب الرطب وفيه وجه ثالث: أنه اختلف النوعان جاز لأنه قد يزيد ذلك النوع وإلا فلا ولو باع رطبا على وجه الأرض برطب على وجه الأرض: لم يجز وجها واحدا لأن أحد المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على التدريج طريا وهذا المقصود لا يحصل فيما على وجه الأرض وقد يستدل بإطلاق الحديث من لا يرى اختصاص جواز بيع العرايا لمحاويج الناس.
وفي مذهب الشافعي وجه: أنه يختص بهم لحديث ورد عن زيد بن ثابت فيه: أنه سمى رجلا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلونه مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق».
أما تجويز بيع العرايا: فقد تقدم وأما حديث أبي هريرة: فإنه زاد فيه بيان مقدار ما تجوز فيه الرخصة وهو ما دون الخمسة أوسق.
ولم يختلف قول الشافعي في أنه لا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق وأنه يجوز فيما دونها وفي خمسة الأوسق قولان والقدر الجائز: إنما يعتبر بالصفقة إن كانت واحدة: اعتبرنا ما زاد على الخمسة فمنعنا وما دونها فأجزنا أما لو كانت صفقات متعددة: فلا منع ولو باع في صفقة واحدة من رجلين ما يكون لكل واحد منهما القدر الجائز: جاز ولو باع رجلان من واحد: فكذلك الحكم في اصح الوجهين لأن تعدد الصفقة بتعدد البائع أظهر من تعددها بتعدد المشتري.