وقد اختلف الفقهاء فيمن أعتق أمته على أن يتزوجها ويكون عتقها صداقها فقال جماعة: لا يلزمها أن تتزوج به وممن قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة وهو إبطال للشرط قال الشافعي فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها الوفاء بتزوجه بل عليها قيمتها لأنه لم يرض بعتقها مجانا وصار ذلك كسائر الشروط الباطلة أو كسائر ما يلزم من الأعواض لمن لم يرض بالمجان.
فإن تزوجته على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك المسمى وعليها قيمتها للسيد فإن تزوجها على قيمتها: فإن كانت القيمة معلومة لها وله صح الصداق ولا يبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق وإن كانت مجهولة فالأصح من وجهي الشافعية أنه لا يصح الصداق ويجب مهر المثل والنكاح صحيح.
ومنهم من صحح الصداق بالقيمة المجهولة على ضرب من الاستحسان وأن يرى العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف.
وذهب جماعة منهم الثوري والزهري وقول عن أحمد وإسحاق: أنه يجوز أن يعتقها على أن يتزوج بها ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق على ظاهر لفظ الحديث.
والأولون قد يؤولونه بما تقدم من أنه جعل عتقها قائما مقام الصداق فسماه باسمه والظاهر مع الفريق الثاني إلا أن القياس مع الأول فيتردد الحال بين ظن من نشأ من قياس وظن من نشأ من ظاهر الحديث مع احتمال الواقعة للخصوصية.
وهي- وإن كانت على خلاف الأصل- إلا أنه يتأنس في ذلك بكثرة خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم في النكاح لاسيما هذه الخصوصية لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ولعله يؤخذ من الحديث استحباب عتق الأمة وتزوجها كما جاء مصرحا به في حديث آخر.
2- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك فقامت طويلا فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال: «هل عندك من شيء تصدقها؟», فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك فالتمس شيئا» قال: ما أجد, قال: «التمس ولو خاتما من حديد» فالتمس فلم يجد شيئا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل معك شيء من القرآن؟» قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن».
في الحديث دليل على عرض المرأة نفسها على من ترجى بركته.
وقولها: (وهبت نفسي لك) مع سكوت النبي صلى الله عليه وسلم دليل لجواز هبة المرأة نكاحها له صلى الله عليه وسلم كما جاء في الآية فإذا تزوجها على ذلك صح النكاح من غير صداق لا في الحال ولا في المآل ولا بالدخول ولا بالوفاة وهذا هو موضع الخصوصية فإن غيره ليس كذلك فلابد من المهر في النكاح إما مسمى أو مهر المثل.
واستدل به من أجاز من الشافعية انعقاد نكاحه بلفظ الهبة ومنهم من منعه إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كغيره صل الله عليه وسلم وجعل الخصوصية عدم لزوم المهر فقط.
وقوله: «هل عندك من شيء تصدقها؟» فيه دليل على طلب الصداق في النكاح وتسميته فيه.
وقوله: «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك» دليل على الإرشاد إلى المصالح من كبير القوم والرفق برعيته.
وقوله: «فالتمس ولو خاتما من حديد» دليل على الاستحباب لئلا يخلى العقد من ذكر الصداق لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة فإنه لو حصل الطلاق قبل الدخول وجب لها نصف المسمى واستدل به من يرى جواز الصداق بما قل أو كثر وهو مذهب الشافعي وغيره ومذهب مالك أن أقله ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو قيمتها ومذهب أبي حنيفة أن أقله عشرة دراهم ومذهب بعضهم أن أقله خمسة دراهم واستدل به على جواز اتخاذ خاتم الحديد وفيه خلاف لبعض السلف وقد قيل عن بعض الشافعية كراهته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها» اختلف في هذه اللفظة فمنهم من رواها كما ذكر ومنهم من رواها: «ملكتها» ومنهم من رواها: «ملكتكها» فيستدل بهذه الرواية من يرى انعقاد النكاح بلفظ التمليك إلا أن هذه لفظة واحدة في حديث واحد اختلف فيها والظاهر القوي: أن الواقع أحد الألفاظ لا كلها فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح بأحد وجوهه ونقل عن الدارقطني أن الصواب رواية من روى: «زوجتكها» وأنه قال: وهم أكثر وأحفظ وقال بعض المتأخرين: ويحتمل صحة اللفظين ويكون أرجى لفظ التزويج أولا فملكها ثم قال له: «اذهب فقد ملكتها» بالتزويج السابق.
قلت: هذا أولا بعيد فإن سياق الحديث يقتضي تعيين موضع هذه اللفظة التي اختلف فيها وأنها التي انعقد بها النكاح وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح واختلاف موضع كل واحد م اللفظين وهو بعيد جدا.
وأيضا فلخصمه أن يعكس الأمر ويقول: كان انعقاد النكاح بلفظ التمليك وقوله عليه السلام: «زوجتكها» إخبارا عما مضى بمعناه فإن ذلك التمليك هو تمليك نكاح.
وأيضا فإن رواية من روى ملكتها التي لم يتعرض لتأويلها يبعد فيها ما قال إلا على سبيل الإخبار عن الماضي بمعناه ولخصمه أن يعكسه وإنما الصواب في مثل هذا أن ينظر إلى الترجيح والله أعلم.
وفي لفظ الحديث: متمسك لمن يرى جواز النكاح بتعليم القرآن والروايات مختلفة في هذا الموضع أيضا أعني قوله: «بما معك من القرآن», والناس متنازعون أيضا في تأويله فمنهم من يرى أن الباء هي التي تقتضي المقابلة في العقود كقولك: بعتك كذا بكذا وزوجتك بكذا ومنهم من يراها باء السببية أي بسبب ما معك من القرآن إما أن يخلى النكاح عن العوض على سبيل التخصيص لهذا الحكم بهذه الواقعة وإما أن يخلى عن ذكره فقط ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق.
3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة فقال: «ما أصدقتها؟» قال: وزن نواة من ذهب, قال: «فبارك الله لك أولم ولو بشاة».
ردع الزعفران بالعين المهملة: أثر لونه.
وقوله عليه السلام: «مهيم» أي ما أمرك؟ وما خبرك؟ قيل: إنها لغة يمانية قال بعضهم: ويشبه أن تكون مركبة.
وفي قوله عليه السلام: «ما أصدقتها؟» تنبيه وإشارة إلى وجود أصل الصداق في النكاح إما بناء على ما تقتضيه العادة وإما بنا على ما يقتضيه الشرع من استحباب تسميته في النكاح وذلك أنه سأله ب ما والسؤال ب ما بعد السؤال ب هل فاقتضى ذلك أن يكون أصل الإصداق متقررا لا يحتاج إلى السؤال عنه.
وفي قوله: (وزن نواة) قولان:
أحدهما: أن المراد نواة من نوى التمر وهو قول مرجوح ولا يتحدد الوزن به لاختلاف نوى التمر في المقدار.
والثاني: أنه عبارة عن مقدار معلوم عندهم وهو وزن خمسة دراهم.
ثم في المعنى وجهان:
أحدهما: أن يكون المصدق ذهبا وزنه خمسة دراهم.
والثاني: أن يكون المصدق دراهم بوزن نواة من ذهب وعلى الأول يتعلق قوله من ذهب بلفظ وزن وعلى الثاني: يتعلق بنواة.
وقوله بارك الله لك دليل على استحباب الدعاء للمتزوج بمثل هذا اللفظ.
والوليمة الطعام المتخذ لأجل العرس وهو من المطلوبات شرعا ولعل من جملة فوائده أن اجتماع الناس لذلك مما يقتضي اشتهار النكاح.
وقوله: «أولم» صيغة أمر محمولة عند الجمهور على الاستحباب وأجراها بعضهم على ظاهرها فأوجب ذلك.
وقوله: «ولو بشاة» يفيد معنى التقليل وليست لو هذه هي التي تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره وقال بعضهم: هي التي تقتضي معنى التمني.
.كتاب الطلاق:
.مدخل:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل».
وفي لفظ: «حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها».
وفي لفظ: «فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم».
الطلاق في الحيض محرم للحديث وذكر عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لعله ليعرفه الحكم. وتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرا وكان يقتضي الحال التثبت في الأمر أو لأنه كان يقتضي الأمر المشاورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك إذا عزم عليه.
وقوله عليه السلام: «ليراجعها» صيغة أمر محمولة عند الشافعي على الاستحباب وعند مالك على الوجوب ويجبر الزوج على الرجعة إذا طلق في الحيض عنده واللفظ يقتضي امتداد المنع للطلاق إلى أن تطهر من الحيضة الثانية لأن صيغة حتى للغاية وقد علل توقف الأمر إلى الطهر من الحيضة الثانية بأنه لو طلق في الطهر من الحيضة الأولى لكانت الرجعة لأجل الطلاق وليس ذلك موضوعها إنما هي موضوعة للاستباحة فإذا أمسك عن الطلاق في هذا الطهر استمرت الإباحة فيه وربما كان دوام مدة الاستباحة مع المعاشرة سببا للوطء فيمتنع الطلاق في ذلك الطهر لأجل الوطء فيه وفي الحيض الذي يليه فقد يكون سببا لدوام العشرة وعدم الطلاق.
ومن الناس من علل امتناع الطلاق في الحيض بتطويل العدة فإن تلك الحيضة لا تحسب من العدة فيطول زمان التربص ومنهم من لم يعلل بذلك ورأى الحكم معلقا بوجود الحيض وصورته وينبني على هذا ما إذا قلنا: إن الحامل تحيض فطلقها في الحيض الواقع في الحمل فمن علل بتطويل العدة لم يحرم لأن العدة هاهنا بوضع الحمل ومن أراد الحكم على صورة الحيض منع.
وقد يؤخذ من الحديث ترجيح المنع في هذه الصورة من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه المراجعة من غير استفصال ولا سؤال عن حال المرأة: هل هي حامل أو حائل؟ وترك الاستفصال في مثل هذا ينزل منزلة عموم المقال عند جمع من أرباب الأصول إلا أنه قد يضعف هاهنا هذا المأخذ لاحتمال أن يكون ترك الاستفصال لندرة الحيض في الحمل.
وينبني أيضا على هذين المأخذين: ما إذا سألت المرأة الطلاق في الحيض هل يحرم طلاقها فيه؟ فمن مال إلى التعليل بطول المدة لما فيه من الإضرار بالمرأة لم يقتض ذلك التحريم لأنها رضيت بذلك الضرر ومن أدار الحكم على صورة الحيض منع والعمل بظاهر الحديث في ذلك أولى وقد يقال في هذا ما قيل في الأول من ترك الاستفصال وقد يجاب عنه فيهما بأنه مبني على الأصل فإن الأصل عدم سؤال الطلاق وعدم الحمل.
ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في بعض طرق هذا الحديث: «مره فأمره بأمره» وعلى كل حال فلا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم لصيغة الأمر بالأمر بمعنى أنهما هل يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أم لا؟.
وفي قوله: «قبل أن يمسها» دليل على امتناع الطلاق في الطهر الذي مسها فيه فإنه شرط في الإذن عدم المسيس لها والمعلق بالشرط معدوم عند عدمه وهذا هو السبب الثاني لكون الطلاق بدعيا وهو الطلاق في طهر مسها فيه وهو معلل بخوف الندم فإن المسيس سبب الحمل وحدوث الولد وذلك سبب للندامة الطلاق.
وقوله فحسبت من طلاقها هو مذهب الجمهور من الأمة أعني وقوع الطلاق في الحيض والاعتداد به.
2- عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب وفي رواية طلقها ثلاثا فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ليس لك عليه نفقة وفي لفظ: «ولا سكنى» فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني» قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد» فكرهته ثم قال: «انكحي أسامة بن زيد», فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به.