وقوله عمر: «لتأتين بمن يشهد معك» يتعلق به من يرى اعتبار العدد في الرواية وليس هو بمذهب صحيح فإنه قد ثبت قبول خبر الواحد وذلك قاطع بعدم اعتبار العدد في حديث جزئي فلا يدل على اعتباره كليا لجواز أن يحال ذلك على مانع خاص بتلك الصورة أو قيام سبب يقتضي التثبت وزيادة الاستظهار لاسيما إذا قامت قرينة مثل عدم علم عمر رضي الله عنه بهذا الحكم وكذلك حديثه مع أبي موسى في الاستئذان ولعل الذي أوجب ذلك استبعاده عدم العلم به وهو في باب الاستئذان أقوى وقد صرح عمر رضي الله عنه بأنه أراد أن يستثبت. 8- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يظل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هو من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع. قوله: «فقتلتها وجنينها» ليس فيه ما يشعر بانفصال الجنين ولعله لا يفهم منه بخلاف حديث عمر الماضي فإنه صرح بالانفصال والشافعية شرطوا في وجوب الغرة الانفصال ميتا بسبب الجناية فلو ماتت الأم ولم ينفصل الجنين لم يجب شيء قالوا: لأنا لا نتيقن وجود الجنين فلا نوجب شيئا بالشك. وعلى هذا هل المعتبر نفس الانفصال أو أن ينكشف ويتحقق حصول الجنين؟ فيه وجهان أصحهما الثاني وينبني على هذا ما إذا قدت بنصفين وشوهد الجنين في بطنها ولم ينفصل وما إذا خرج رأس الجنين بعدما ضرب وماتت الأم لذلك ولم ينفصل وبمقتضى هذا يحتاجون إلى تأويل هذه الرواية وحملها على أنه انفصل وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه. مسألة أخرى: الحديث علق الحكم بلفظ الجنين والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي من يد أو إصبع أو غيرهما ولو لم يظهر شيء من ذلك وشهدت البينة بأن الصورة خفية يختص أهل الخبرة بمعرفتها وجبت الغرة أيضا وإن قالت البينة: ليست فيه صورة خفية ولكنه أصل الآدمي ففي ذلك اختلاف والظاهر عند الشافعية أنه لا تجب الغرة وإن شكت البينة في كون أصله الآدمي لم تجب بلا خلاف. وحظ الحديث: أن الحكم مرتب على اسم الجنين فما تخلق فهو داخل فيه وما كان دون ذلك فلا يدخل تحته إلا من حيث الوضع اللغوي فإنه مأخوذ من الاجتنان وهو الاختفاء فإن خالفه العرف العام فهو أولى منه وإلا اعتبر الوضع. وفيه الحديث: دليل على أنه لا فرق في الغرة بين الذكر والأنثى ويجبر المستحق على قبول الرقيق من أي نوع كان وتعتبر فيه السلامة من العيوب المثبتة للرد في البيع واستدل بعضهم على ذلك بأنه ورد في الخبر لفظة الغرة قال: وهي الخيار وليس المعيب من الخيار. وفيه أيضا من الإطلاق في العبد والأمة: أنه لا يتقدر قيمة وهو وجه للشافعية والأظهر عندهم: أنه ينبغي أن تبلغ قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل وقيل: إن ذلك يروي عن عمر وزيد بن ثابت. وفيه دليل على أنه إذا وجدت الغرة بالصفات المعتبرة: أنه لا يلزم المستحق قبول غيرها لتعيين حقه في ذلك في الحديث وأما إذا عدمت: فليس في الحديث ما يشعر بحكمه وقد اختلفوا فيه فقيل: الواجب خمس من الإبل وقيل: يعدل إلى القيمة عند الفقد. وقد قدمنا الإشارة إلى أن الحديث بإطلاقه لا يقتضي تخصيص سن دون سن والشافعية قالوا: لا يجبر على قبول ما لم يبلغ سبعا لحاجته إلى التعهد وعدم استقلاله وأما في طرف الكبر فقيل: إنه لا يؤخذ الغلام بعد خمسة عشرة سنة ولا الجارية بعد عشرين سنة وجعل بعضهم الحد: عشرين والأظهر: أنهما يؤخذان وإن جاوزوا الستين ما لم يضعفا ويخرجا عن الاستقلال بالهرم لأن من أتى بما دل الحديث عليه ومسماه: فقد أتى بما وجب فلزم قبوله إلا أن يدل دليل على خلافه وقد أشرنا إلى أن التقييد بالسن ليس من مقتضى لفظ الحديث. مسألة أخرى: الحديث ورد في جنين حرة وهذا الحديث الثاني ليس فيه عموم يدخل تحته جنين الأمة بل هو حكم وارد في جنين الحرة من غير لفظ عام وأما حديث عمر السابق- وإن كان في لفظ الاستشارة ما يقتضي العموم لقوله: «في إملاص المرأة» لكن لفظ الراوي يقتضي أنه شهد واقعة مخصوصة فعلى هذا: ينبغي أن يؤخذ حكم جنين الأمة من محل آخر وعند الشافعية: الواجب في جنين الرقيق: عشر قيمة الأم ذكرا أو أنثى وكذلك نقول: إن الحديث وارد في جنين محكوم بإسلامه ولا يتعرض لجنين محكوم له بالتهود أو التنصر تبعا ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعا وهذا مأخوذ من القياس لا من الحديث. وقوله: «قضى بدية المرأة على عاقلتها» إجراء لهذا القتل مجرى غير العمد. وحمل: بفتح الحاء المهملة والميم معا. وطل: دم القتيل إذا أهدر ولم يؤخذ فيه شيء. وقوله عليه السلام: «إنما هو من إخوان الكهان» الخ فيه إشارة إلى ذم السجع وهو محمول على السجع المتكلف لإبطال حق أو تحقيق باطل أو لمجرد التكلف بدليل أنه قد ورد السجع في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام غيره من السلف ويدل على ما ذكرناه: أنه شبهه بسجع الكهان لأنهم كانوا يرجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع قال بعضهم: فأما إذا كان وضع السجع في مواضعه من الكلام فلا ذم فيه. 9- عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيته فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك». أخذ الشافعي بظاهر هذا الحديث فلم يوجب ضمانا لمثل هذه الصورة إذا عض إنسان يد آخر فانتزعها فسقط سنه وذلك إذا لم يمكنه تخليص يده بأيسر ما يقدر عليه من فك لحييه أو الضرب في شدقيه ليرسلها فحينئذ إذا سل أسنانه أو بعضها فلا ضمان عليه. وخالف غير الشافعي في ذلك وأوجب ضمان السن والحديث صريح لمذهب الشافعي وأما التقيد بعدم الإمكان بغير هذا الطريق: فعله مأخوذ من القواعد الكلية وأما إذا لم يمكنه التخليص إلا بضرب عضو آخر كبعج البطن وعصر الانثيين فقد اختلف فيه فقيل: له ذلك وقيل: ليس له قصد غير الفم وإذا كان القياس وجوب الضمان فقد يقال: إن النص ورد في صورة التلف بالنزع من اليد فلا نقيس عليه غيره لكن إذا دلت القواعد على اعتبار الإمكان في الضمان وعدم الإمكان في غير الضمان وفرضنا أنه لم يكن الدفع إلا بالقصد إلى غير الفم: قوي بعد هذه القاعدة: أن يسوى بين الفم وغيره. 10- عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثا وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة». الحسن بن أبي الحسن: يكنى أبا سعيد من أكابر التابعين وسادات المسلمين ومن مشاهير العلماء والزهاد المذكورين وفضائله كثيرة. وجندب بضم الدال وفتحها: ابن عبد الله بن سفيان البجلي العقلي- بفتح العين واللام- والعلق: بطن من بجيلة ومنهم من ينسبه إلى جده فيقول: جندب بن سفيان كنيته: أبو عبد الله كان بالكوفة ثم صار إلى البصرة: وحز يده قطعها أو بعضها ورقأ الدم بفتح الراء والقاف والهمز: ارتفع وانقطع. وفي الحديث إشكالان. أحدهما قوله: «بادرني عبدي بنفسه» وهي مسألة تتعلق بالآجال وأجل كل شيء: وقته يقال: بلغ أجله أن تم أمده وجاء حينه وليس كل وقت أجلا ولا يموت أحد بأي سبب كان إلا بأجله وقد علم الله بأنه يموت بالسبب المذكور وما علمه فلا يتغير فعلى هذا: يبقى قوله: «بادرني عبدي بنفسه» يحتاج إلى التأويل فإنه قد يوهم: أن الأجل كان متأخرا عن ذلك الوقت فقدم عليه. الثاني قوله: «حرمت عليه الجنة» فيتعلق به من يرى بوعيد الأبد وهو مؤول عند غيرهم على تحريم الجنة بحالة مخصوصة كالتخصيص بزمن كما يقال: إنه لا يدخلها مع السابقين أو يحملونه على فعل ذلك مستحلا فيكفر به ويكون مخلدا بكفره لا بقتله نفسه. والحديث أصل كبير في تعظيم قتل النفس سواء كانت نفس الإنسان أو غيره لأن نفسه ليس ملكه أيضا فيتصرف فيها على حسب ما يراه. .كتاب الحدود:
.مدخل:
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قدم ناس من عكل- أو عرينة- فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بهم: فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمرت أعينهم وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون). قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله أخرجه الجماعة. اجتويت البلاد: إذا كرهتها وإن كانت موافقة, واستوبأتها: إذا لم توافقك. استدل بالحديث على طهارة أبوال الإبل للإذن في شربها والقائلون بنجاستها اعتذروا عن هذا: بأنه للتداوي وهو جائز بجميع النجاسات إلا بالخمر. واعترض عليهم الأولون بأنها لو كانت محرمة الشرب: لما جاز التداوي بها لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. وقد وقع في هذا الحديث التمثيل بهم واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم: هو منسوخ بالحدود فعن قتادة: أنه قال: فحدثني محمد بن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود وقال ابن شهاب- بعد أن ذكر قصتهم- وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية والتي بعدها وروي محمد بن الفضل- بإسناد صحيح منه إلى ابن سيرين- قال كان شأن العرنيين قبل أن تنزل الحدود التي أنزل الله عز وجل في المائدة من شأن المحاربين: أن يقتلوا أو يصلبوا: فكان شأن العرنيين منسوخا بالآية التي يصف فيها إقامة حدودهم. وفي حديث أبي حمزة عن عبد الكريم- وسئل عن أبوال الإبل؟- فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين- فذكر الحديث- وفي آخره فما مثل النبي صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ونهى عن المثلة وقال: «لا تمثلوا بشيء». وفي رواية إبراهيم بن عبد الرحمن عن محمد بن الفضل الطبري بإسناد فيه موسى بن عبيدة الربذي- بسنده إلى جرير بن عبد الله البجلي بقصتهم- وفي آخره فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم سمل الأعين فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. وروي ابن الجوزي في كتابه حديثا من رواية صالح بن رستم عن كثير بن شنظير عن الحسن عن عمران بن حصين قال ما قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة وقال قال ابن شاهين: هذا الحديث ينسخ كل مثلة كانت في الإسلام قال ابن الجوزي: وادعاء النسخ محتاج إلى تاريخ وقد قال بعض العلماء: إنما سمل أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة فاقتص منهم بمثل ما فعلوا والحكم ثابت. قلت: هنا تقصير لأن الحديث ورد فيه المثلة من جهات عديدة وبأشياء كثيرة فهب أنه ثبت القصاص في سمل الأعين فماذا يصنع بباقي ما جرى من المثلة؟ فلابد فيه من جواب عن هذا وقد رأيت عن الزهري في قصة العرنيين: أنه ذكر أنهم قتلوا يسارا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مثلوا به فلو ذكر ابن الجوزي هذا: كان أقرب إلى مقصوده مما ذكره من سمل الأعين فقط على أنه أيضا بعد ذلك: يبقى نظر في بعض ما حكي في القصة. وعكل: بضم العين المهملة وسكون الكاف وآخره لام وعرينة: بضم العين المهملة وفتح الراء المهملة وسكون آخر الحروف بعدها نون وقال بعضهم: هم ناس من بني سليم وناس من بني بجيلة وبني عرينة واللقاح: النوق ذوات اللبن. 2- عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقال الخصم الآخر- وهو أفقه منه- نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قل» فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت: أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم: رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس- لرجل من أسلم- على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. العسيف: الأجير.