.باب حد السرقة:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته- وفي لفظ: ثمنه- ثلاثة دراهم).
اختلف الفقهاء في النصاب في السرقة أصلا وقدرا أما الأصل: فجمهورهم على اعتبار النصاب وشذ الظاهرية فلم يعتبروه ولم يفرقوا القليل والكثير وقالوا بالقطع فيهما ونقل في ذلك وجه في مذهب الشافعي.
والاستدلال بهذا الحديث على اعتبار النصاب ضعيف فإنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلا: عدم القطع فيما دونه نطقا.
وأما المقدار: فإن الشافعي يرى أن النصاب ربع دينار لحديث عائشة الآتي يقوم ماعدا الذهب بالذهب وأبو حنيفة يقول: إن النصاب عشرة دراهم ويقوم ما عدا الفضة بالفضة ومالك يرى: أن النصاب ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم وكلاهما أصل ويقوم ما عداهما بالدرهم وكلا الحديثين يدل على خلاف مذهب أبي حنيفة.
وأما هذا الحديث: فإن الشافعي بين أنه لا يخالف حديث عائشة وأن الدينار كان اثني عشرة درهما وربعه ثلاثة دراهم أعني صرفه ولهذا قومت الدية باثني عشر ألفا من الورق وألف دينار من الذهب.
وهذا الحديث يستدل به لمذهب مالك في أن الفضة أصل في التقويم فإن المسروق كان غير الذهب والفضة وقوم بالفضة دون الذهب: دل على أنها أصل في التقويم وإلا كان الرجوع إلى الذهب- الذي هو الأصل- أولى وأوجب عند من يرى التقويم به والحنفية في مثل هذا الحديث وفيمن روى في حديث عائشة: (القطع في ربع دينار فصاعدا) يقولون- أو من قال منهم- في التأويل ما معناه: إن التقويم أمر ظني تخميني فيجوز أن تكون قيمته عند عائشة ربع دينار أو ثلاثة دراهم ويكون عند غيرها أكثر وقد ضعف غيرهم هذا التأويل وشنعه عليهم بما معناه: إن عائشة لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع.
والمجن بكسر الميم وفتح الجيم: الترس مفعل من معنى الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وما يقارب ذلك ومنه الجن وكسرت ميمه لأنه آلة في الاجتنان كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره قال الشاعر:
فكان مجني دون ما كنت أتقي ** ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر
والقيمة والثمن: مختلفان في الحقيقة وتعتبر القيمة وما ورد في بعض الروايات من ذكر الثمن فلعله لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت أو في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه لم تعتبر إلا القيمة.
2- عن عائشة رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا».
هذا الحدي اعتماد الشافعي رحمه الله في مقدار النصاب وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وقولا وهذه الرواية قول وهو أقوى في الاستدلال من الفعل لأنه لا يلزم من القطع في مقدار معين- اتفق أن السارق الذي قطع سرقه أن لا يقطع من سرق ما دونه وأما القول الذي يدل على اعتبار مقدار معين في القطع: فإنه يدل على عدم اعتبار ما زاد عليه في إباحة القطع فإنه لو اعتبر في ذلك لم يجز القطع فيما دونه وأيضا: فرواية الفعل يدخل فيها ما ذكرناه من التأويل المستضعف في أن التقويم أمر ظني إلى آخره.
واعلم أن هذا الحديث قوي في الدلالة على أصحاب أبي حنيفة فإنه يقتضي صريحه: القطع في هذا المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع به وأما دلالته على الظاهر: فليس من حيث النطق بل من حيث المفهوم وهو داخل في مفهوم العدد ومرتبته أقوى من مرتبة مفهوم اللقب.
3- عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟» ثم قام فاختطب.
فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف: أقاموا عليه الحد وأيم الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
وفي لفظ: «كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها».
قد أطلق في هذا الحديث على هذه المرأة لفظة السرقة ولا إشكال فيه وإنما الإشكال في الرواية الثانية وهو إطلاق جحد العارية على المرأة وليس في لفظ هذا الحديث ما يدل على أن المعبر عنه امرأة واحدة ولكن في عبارة المصنف ما يشعر بذلك فإنه جعل الذي ذكره ثانيا رواية وهو يقتضي من حيث الإشعار العادي: أنهما حديث واحد.
اختلف فيه: هل كانت هذه المرأة المذكورة سارقة أو جاحدة؟ وعن أحمد: أنه أوجب القطع في صورة جحود العارية عملا بتلك الرواية فإذا أخذ بطريق صناعي- أعني في صنعة الحديث- ضعفت الدلالة على مسألة الجحود قليلا فإنه يكون اختلافا في واقعة واحدة فلا يثبت الحكم المرتب على الجحود حتى يتبين ترجيح رواية من روى في هذا الحديث أنها كانت جاحدة على رواية من روى أنها كانت سارقة.
وأظهر بعض الشافعية النكير والتعجب ممن أول حديث عائشة في القطع في ربع دينار- الذي روي فعلا- بأن اعتمد على رواية من رواه قولا فإنه كان مخرج الحديث مختلفا فالأمر كما قال فإن أحد الحديثين حينئذ يدل على القطع فعلا في هذا المقدار والثاني: يدل عليه قولا ولا يتأتى فيه تأويل احتمال الغلط في التقويم وإن كان مخرج الحديث واحدا ففيه من الكلام ما أشرنا إليه الآن إلا أنه هاهنا قوي لأنه لا يجوز للراوي إذا كان سمعه لرواية الفعل: أن يغيره إلى رواية القول فيظهر من هذا: أنهما حديثان مختلفان اللفظ وإن كان مخرجهما واحدا.
وفي الحديث: دليل على امتناع الشفاعة في الحد بعد بلوغه السلطان وفيه تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى.
ولفظة إنما هاهنا دالة على الحصر والظاهر: أنه ليس للحصر المطلق مع احتمال ذلك فإن بني إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك فيحمل ذلك على حصر مخصوص وهو الإهلاك بسبب المحاباة في حدود الله فلا ينحصر ذلك في هذا الحد المخصوص.
وقد يستدل بقوله عليه السلام: «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» على أن ما خرج هذا المخرج من الكلام الذي يقتضي تعليق القول بتقدير أمر آخر: لا يمنع وقد شدد جماعة في مثل هذا ومراتبه في القبح مختلفة.
.باب حد الخمر:
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر.
لا خلاف في الحد على شرب الخمر واختلفوا في مقداره فمذهب الشافعي: أنه أربعون واتفق أصحابه: أنه لا يزيد على الثمانين وفي الزيادة على الأربعين إلى الثمانين: خلاف والأظهر: الجواز ولو رأى الإمام أن يحده بالنعال وأطراف الثياب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جاز ومنهم من منع ذلك تعليلا بعسر الضبط وظاهر قوله: «فجلده بجريدة نحو أربعين» أن هذا العدد هو القدر الذي ضرب به وقد وقع في رواية الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضربوه» فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وفي الحديث: «قال: فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك الضرب؟ فقومه أربعين فضرب أبو بكر في الخمر أربعين» ففسره بعض الناس وقال: أي قدر الضرب الذي ضربه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب: فكان مقدار أربعين ضربة لا أنها عددا أربعون بالثياب والنعال والأيدي إنما قايس مقدار ما ضربه ذلك الشارب فكان: مقدار أربعين عصا فلذلك قال فقومه أي جعل قيمته أربعين وهذا عندي خلاف الظاهر ويبعده: قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين فإنه لا ينطلق إلا على عدد كثير من الضرب بالأيدي والنعال وتسليط التأويل على لفظة قومه أنها بمعنى قدر ما وقع فكان أربعين: أقرب من تسليط هذا صدق قولنا جلد أربعين حقيقة.
وقوله فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون ويروى بالنصب أخف الحدود ثمانين أي اجعله وما يقارب ذلك.
وفيه دليل على المشاورة في الأحكام والقول فيها بالاجتهاد وقيل: إن الذي أشار بالثمانين: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد يستدل به من يرى الحكم بالقياس أو الاستحسان.
وقوله فلما كان عمر يجوز أن يكون على حذف مضاف أي فلما كان زمن ولاية عمر وما يقارب ذلك ومذهب مالك: أن حد الخمر: ثمانون على ما وقع في زمن عمر.
2- عن أبي بردة- هانئ بن نيار- البلوي رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا حد من حدود الله».
فيه مسألتان:
إحداهما: إثبات التعزير في المعاصي التي لا حد فيها لما يقتضيه من جواز العشرة فما دونها.
المسألة الثانية: اختلفوا في مقدار التعزير والمنقول عن مالك: أنه لا يتقدر بهذا القدر ويجيز في العقوبات فوق هذا وفوق الحدود على قدر الجريمة وصاحبها وأن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام وظاهر مذهب الشافعي: أنه لا يبلغ بالتعزير إلى الحدود وعلى هذا: ففي المعتبر وجهان:
أحدهما: أدنى الحدود في حق المعزر فلا يزاد في تعزير الحر على تسع وثلاثين ضربة ليكون دون حد الشرب ولا في تعزير العبد على تسعة عشر سوطا.
والثاني: أنه يعتبر أدنى الحدود على الإطلاق فلا يزاد في تعزير الحر أيضا على تسعة عشر سوطا أيضا.
وفيه وجه ثالث: أن الاعتبار بحد الأحرار فيجوز أن يزاد تعزير العبد على عشرين.
وذهب غير واحد إلى ظاهر الحديث وهو أنه لا يزاد في التعزير على عشرة وإليه ذهب الشافعية صاحب التقريب وذكر بعض المصنفين منهم: أن الأظهر: أنه لا يجوز الزيادة على العشر.
واختلف المخالفون لظاهر هذا الحديث في العذر عنه فقال بعض مصنفي الشافعية: إنه منسوخ بعمل الصحابة بخلافه وهذا ضعيف جدا لأنه يتعذر عليه إثبات إجماع الصحابة على العمل بخلافه وفعل بعضهم أو فتواه لا يدل على النسخ والمنقول في ذلك: فعل عمر رضي الله عنه أنه ضرب صبيغا أكثر من الحد أو مائة وصبيغ هذا- بفتح الصاد المهملة وكسر ثاني الحروف وأخره غين معجمة- وقال بعض المالكية: وتأول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر وهذا في غاية الضعف أيضا لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص وما ذكره مناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص.
قال هذا المالكي: وتأولوه أيضا على أن المراد بقوله: «في حد من حدود الله» أي حق من حقوقه وإن لم يكن من المعاصي المقدرة حدودها لأن المحرمات كلها من حدود الله.
وبلغني عن بعض أهل العصر: أنه قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بهذه المقدمات أمر اصطلاحي فقهي وأن عرف الشرع في أول الإسلام: لم يكن كذلك أو يحتمل أن لا يكون كذلك- هذا وكما قال- فلا يخرج عنه إلا التأديبات التي ليست عن محرم شرعي.
وهذا- أولا- خروج في لفظة الحد عن العرف فيها وما ذكره هذا العصري: يوجب النقل والأصل عدمه.
وثانيا: أنا إذا حملناه على ذلك وأجزنا في كل حق من حقوق الله: أن يزاد لم يبق لنا شيء يختص المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط إذ ما عدا المحرمات كلها التي لا تجوز فيها الزيادة: ليس إلا ما ليس بمحرم واصل التعزير فيه ممنوع فلا يبقى لخصوص منع الزيادة منى وهذا أوردناه على ما قاله المالكي في إطلاقه لحقوق الله وقد يتعذر عنه بما أشرنا إليه من أنه لا يخرج عنه إلا التأديبات على ما ليس بمحرم ومع هذا فيحتاج إلى إخراجها عن كونها من حقوق الله.
وثالثا:- على أصل الكلام وما قاله العصري فيما نقل عنه- ما تقدم في الحديث قبله من حديث عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فإنه يقطع دابر هذا الوهم ويدل على أن مصطلحهم في الحدود: إطلاقها على المقدرات التي يطلق عليها الفقهاء اسم الحد فإن ما عدا ذلك لا ينتهي إلى مقدار أربعين فهو ثمانون وإنما المنتهي إليه: هي الحدود المقدرات.
وقد ذهب أشهب من المالكية إلى ظاهر هذا الحديث كما ذهب إليه صاحب التقريب من الشافعية والحديث متعرض للمنع من الزيادة على العشرة ويبقى ما دونها لا نعرض للمنع فيه.
وليس التخيير فيه ولا في شيء مما يفوض إلى الولاة: تخيير تشه بل لابد عليهم من الاجتهاد.
وعن بعض المالكية: أن مؤدب الصبيان لا يزيد على ثلاثة فإن زاد اقتص منه وهذا تحديد يبعد إقامة الدليل المتين عليه ولعله يأخذه من الثلاث: اعتبرت في مواضع وهو أول حد الكثرة وفي ذلك ضعف.
والذي ذكره المصنف- من أن أبا بردة: هو هانئ بن نيار- مختلف فيه فقد قيل: إنه رجل من الأنصار.