.كتاب الأيمان والنذور:
.مدخل:
1- عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير».
فيه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهره يقتضي كراهية سؤال الإمارة مطلقا والفقهاء تصرفوا فيه بالقواعد الكلية فمن كان متعينا للولاية وجب عليه قبولها إن عرضت عليه وطلبها إن لم تعرض لأنه فرض كفاية لا يتأدى إلا به فيتعين عليه القيام به وكذا إذا لم يتعين وكان أفضل من غيره ومنعنا ولاية الفضول مع وجد الأفضل وإن كان غيره أفضل منه ولم نمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل: فههنا يكره له أن يدخل في الولاية وأن يسألها وحرم بعضهم الطلب وكره للإمام أن يوليه وقال: إن ولاه انعقدت ولايته وقد استخطئ فيما قال ومن الفقهاء من أطلق القول بكراهية القضاء لأحاديث وردت فيه.
المسألة الثانية: لما كان خطر الولاية عظيما بسبب أمور في الوالي وبسبب أمور خارجة عنه: كان طلبها تكلفا ودخولا في غرر عظيم فهو جدير بعدم العون ولما كانت إذا أتت من غير مسألة لم يكن فيها هذا التكلف: كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها.
وفي الحديث: إشارة إلى ألطاف الله تعالى بالعبد بالإعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله تفضلا زائدا على مجرد التكليف والهداية إلى النجدين هي مسألة أصولية كثر فيها الكلام في فنها والذي يحتاج إليه في الحديث: ما أشرنا إليه الآن.
المسألة الثالثة: للحديث تعلق بالتكفير قبل الحنث ومن يقول بجوازه قد يتعلق بالبداءة بقوله عليه السلام: «فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير» وهذا ضعيف لأن الواو لا تقتضي الترتيب, والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة وليس بجيد طريقة من يقول في مثل هذا: إن الفاء تقضي الترتيب والتعقيب فيقتضي ذلك: أن يكون التكفير مستعقبا لروية الخير في الحنث فإذا استعقبه التكفير: تأخر الحنث ضرورة وإنما قلنا إنه ليس بجيد لما بيناه من حكم الواو فلا فرق بين قولنا فكفر وائت الذي هو خير وبين قولنا فاعل هذين ولو قال كذلك لم يقتض ترتيبا ولا تقديما فكذلك إذا أتى بالواو.
وهذه الطريقة التي أشرنا إليها ذكرها بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء وقال: إن الآية تقتضي تقديم غسل الوجه بسبب الفاء وإذا وجب تقديم غسل الوجه وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقا وهو ضعيف لما بيناه.
المسألة الرابعة: يقتضي الحديث: تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين إذا كان غيره خيرا بنصه وأما مفهومه: فقد يشير بأن الوفاء بمقتضى اليمين عند عدم رؤية الخير في غيرها مطلوب وقد تنازع المفسرون في معنى قوله تعلى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] وحمله بعضهم على ما دل عليه الحديث ويكون معنى عرضة أي مانعا وأن تبروا بتقدير: ما أن تبروا.
2- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني والله- إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها».
في هذا الحديث: تقديم ما يقتضي الحنث في اللفظ على الكفارة إن كان معنى قوله عليه السلام وتحللتها التكفير عنها ويحتمل أن يكون معناه: إتيان ما يقتضي الحنث فإن التحلل نقيض العقد والعقد: هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها فيكون التحلل: الإتيان بخلاف مقتضاها.
فإن قلت: فيكفي عن هذا قوله: «أتيت الذي هو خير منها» فإنه بإتيانه إياه تحصل مخالفة اليمين والتحلل منها فلا يفيد قوله عليه السلام حينئذ «وتحللت» فائدة زائدة على ما في قوله: «أتيت الذي هو خير منها».
قلت: فيه فائدة التصريح والتنصيص على كون ما فعله محللا والإتيان به بلفظه يناسب الجواز والحل صريحا فإذا صرح بذلك كان أبلغ مما إذا أتى به على سبيل الاستلزام.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم المذكور باليمين بالله تعالى وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث على الوفاء عند هذه الحالة.
وهذا الخير الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: أمر يرجع إلى مصالح الحنث المتعلقة بالمفعول المحلوف على تركه مثلا.
وهذا الحديث له سبب مذكور في غير هذا الموضع وهو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن يحملهم ثم حملهم».
3- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم».
ولمسلم: «فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».
وفي رواية قال عمر: «فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ذاكرا ولا آثرا».
يعني: حاكيا عن غيري: أنه حلف بها.
الحديث: دليل على المنع من الحلف بغير الله تعالى واليمين منعقد عند الفقهاء باسم الذات وبالصفات العلية وأما اليمين بغير ذلك: فهو ممنوع واختلفوا في هذا المنع هل هو على التحريم أو على الكراهة؟ والخلاف موجود عند المالكية فالأقسام ثلاثة.
الأول: ما يباح به اليمين وهو ما ذكرناه من أسماء الذات والصفات.
والثاني: ما تحرم اليمين به بالاتفاق كالأنصاب والأزلام واللات والعزى فإن قصد تعظيمها فهو كفر كذا قال بعض المالكية معلقا للقول فيه حيث يقول فإن قصد تعظيمها فكفر وإلا فحرام القسم بالشيء تعظيم له وسيأتي حديث يدل إطلاقه على الكفر لمن حلف ببعض ذلك وما يشبهه ويمكن إجراؤه على ظاهره لدلالة اليمين بالشيء على التعظيم له.
الثالث: ما يختلف فيه بالتحريم والكراهة وهو ما عدا ذلك مما يقتضي تعظيمه كفرا.
وفي قول عمر رضي الله عنه ذاكرا ولا آثرا مبالغة في الاحتياط وأن لا يجري على اللسان ما صورته صورة الممنوع شرعا.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له: قل: إن شاء الله فلم يقل فطاف بهن فلم تلد منهم إلا امرأة واحدة: نصف إنسان», قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قال إن شاء الله: لم يحنث وكان دركا لحاجته».
قوله: «قيل له: قل إن شاء الله» يعني قال له الملك.
فيه دليل: على أن اتباع اليمن بالله بالمشيئة: يرفع حكم اليمين لقوله عليه السلام لم يحنث وفيه نظر وهذا ينقسم إلى ثلاثة أوجه.
أحدها: أنها ترد المشيئة إلى الفعل المحلوف عليه كقوله مثلا لأدخلن الدار إن شاء الله وأراد: رد المشيئة إلى الدخول أي إن شاء الله دخولها وهذا هو الذي ينفعه الاستثناء بالمشيئة ولا يحنث إن لم يفعل.
الثاني: أن يرد الاستثناء بالمشيئة إلى نفس اليمين فلا ينفعه الرجوع لوقوع اليمين وتيقن مشيئة الله.
والثالث: أن يذكر على سبيل الأدب في تفويض الأمر إلى مشيئة الله وامتثالا لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 ,24] لا على قصد معنى التعليق وهذا لا يرفع حكم اليمين.
ولا تعلق للحديث بتعليق الطلاق بالمشيئة والفقهاء مختلفون فيه ومالك يفرق بين الطلاق واليمين بالله ويوقع الطلاق وإن علق بالمشيئة بخلاف اليمين بالله لأن الطلاق حكم قد شاءه الله وهو مشكل جدا تركنا التعرض لتقريره لعدم تعلقه بالحديث.
وقد يؤخذ من هذا الحديث أن الكناية في اليمين مع النية كالصريح في حكم اليمين من حيث إن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حكاه عن سليمان عليه السلام وهو قوله: «لأطوفن» ليس فيه التصريح باسم الله تعالى لكنه مقدر لأجل اللام التي دخلت على قوله: «لأطوفن» فإن كان قد قيل بذلك وأن اليمين تلزم بمثل هذا فالحديث حجة لمن قاله وإن لم يكن فيحتاج إلى تأويله وتقدير اللفظ باسم الله تعالى صريحا في المحكي وإن كان ساقطا في الحكاية وهذا ليس بممتنع في الحكاية فإن من قال والله لأطوفن فقد قال لأطوفن فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد.
وقوله: «وكان دركا لحاجته» يراد به: أنه كان يحصل ما أراد.
وقد يؤخذ من الحديث جواز الإخبار عن وقوع الشيء المستقبل بناء على الظن فإن هذا الإخبار أعني قول سليمان عليه السلام: «تلد كل امرأة منهن غلاما» لا يجوز أن يكون عن وحي وإلا لوجب وقوع مخبره وأجاز الفقهاء الشافعية اليمين على الظن في الماضي وقالوا: يجوز أن يحلف على خط أبيه وذكر بعضهم أضعف من هذا وأجاز الحلف في صورة بناء على قرينة ضعيفة.
وأما بعض المالكية فإنه دل لفظه على احتمال في هذا الجواز وتردد أو على نقل خلاف أعني اليمين على الظن لأنه قال: والظاهر أن الظن كذلك وهو محتمل لما ذكرناه من الوجهين.
وقد يؤخذ من الحديث أن الاستثناء إذا اتصل باليمين في اللفظ أنه يثبت حكمه وإن لم ينو من أول اللفظ وذلك أن الملك قال: قل إن شاء الله تعالى عند فراغه من اليمين فلو لم يثبت لما أفاد قوله ويمكن أن يجعل ذلك تأدبا لا لرفع حكم اليمين فلا يكون فيه حجة.
وأقوى من ذلك في الدلالة قوله عليه السلام: «لو قال إن شاء الله لم يحنث» مع احتماله للتأويل.
5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان», ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية.
يمين الصبر هي التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين والصبر الحبس فكأنه يحبس نفسه على هذا الأمر العظيم وهي اليمين الكاذبة ويقال لمثل هذه اليمين الغموس أيضا وفي الحديث وعيد شديد لفاعل ذلك وذلك لما فيها من أكل المال بالباطل ظلما وعدوانا والاستخفاف بحرمة اليمين بالله.
وهذا الحديث يقتضي تفسير هذه الآية بهذا المعنى وفي ذلك اختلاف بين المفسرين ويترجح قول من ذهب إلى هذا المعنى بهذا الحديث وبيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني كتاب الله العزيز وهو أمر يحصل للصحابة بقرائن تحف بالقضايا.
6- عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه», قلت: إذا يحلف ولا يبالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان».
هذا الحديث فيه دلالة على الوعيد المذكور كالأول وفيه شيء آخر يتعلق بمسألة اختلف فيها الفقهاء وهو ما إذا ادعى على غريمه شيئا فأنكره وأحلفه ثم أراد إقامة البينة عليه بعد الإحلاف فله ذلك عند الشافعية وعند المالكية: ليس له ذلك إلا أن يأتي بعذر في ترك إقامة البينة يتوجه له وربما يتمسكون بقوله عليه السلام: «شاهداك أو يمينه» وفي حديث آخر: «ليس لك إلا ذلك» ووجه الدليل منه أن أو تقتضي أحد الشيئين فلو أجزنا إقامة.