وقد يقال أن البخيل لا يأتي بالطاعة إلا إذا اتصفت بالوجوب فيكون النذر هو الذي أوجب له فعل الطاعة لتعلق الوجوب به ولو لم يتعلق به الوجوب لتركه البخيل فيكون النذر المطلق أيضا مما يستخرج به من البخيل إلا أن لفظة البخيل هنا قد تشعر بما يتعلق بالمال وعلى كل تقدير فاتباع النصوص أولى.
وقوله عليه السلام: «إنما يستخرج به من البخيل» الأظهر في معناه أن البخيل لا يعطي طاعة إلا في عوض ومقابل يحصل له فيكون النذر هو السبب الذي استخرج منه تلك الطاعة.
وقوله عليه السلام: «لا يأتي بخير» يحتمل أن تكون الباء باء السببية كأنه يقول: لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القرب والطاعة من غير عوض يحصل له وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها ولكن سبب ذلك الخير حصول غرضه.
3- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركب».
نذر المشي إلى بيت الله الحرام لازم عند مالك مطلقا وتعليقا فيحتاج إلى تأويل قوله: «ولتركب» فيمكن أن يحمل على حالة العجز عن المشي فإنها تركب وفي ما يلزم عن ذلك الركوب تفصيل مذهبي عندهم.
4- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاقضه عنها».
فيه دليل على جواز قضاء المنذور عن الميت وقوله: «عن نذر» هو نكرة في الإثبات ولم يبين في هذه الرواية ما كان النذر.
وقد انقسمت العبادة إلى مالية وبدنية والمالية لا إشكال في دخول النيابة فيها والقضاء على الميت وإنما الإشكال في العبادة البدنية كالصوم.
5- عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».
فيه دليل على أن إمساك ما يحتاج إليه من المال أولى من إخراج كله في الصدقة وقد قسموا ذلك بحسب أخلاق الإنسان فإن كان لا يصبر على الإضافة كره له أن يتصدق بكل ماله وإن كان ممن يصبر لم يكره.
وفيه دليل على أن الصدقة لها أثر في محو الذنوب ولأجل هذا شرعت الكفارات المالية وفيها مصلحتان كل واحدة منهما تصلح للمحو.
إحداهما: التواب الحاصل بسببها وقد تحصل به الموازنة فتمحو أثر الذنب.
والثانية: دعاء من يتصدق عليه فقد يكون سببا لمحو الذنوب.
وقد ورد في بعض الروايات: «يكفيك من ذلك الثلث».
واستدل بعض المالكية على أن من نذر التصدق بكل ماله اكتفى منه بالثلث وهو ضعيف لأن اللفظ الذي أتى به كعب بن مالك ليس بتنجيز صدقة حتى يقع في محل الخلاف وإنما هو لفظ عن نية قصد فعل متعلقها ولم يقع بعد فأشار عليه السلام بأن لا يفعل ذلك وأن يمسك بعض ماله وذلك قبل إيقاع ما عزم عليه هذا ظاهر اللفظ أو هو محتمل له وكيفما كان فتضعف منه الدلالة على مسألة الخلاف وهو تنجيز الصدقة بكل المال نذرا مطلقا أو معلقا.
.باب القضاء:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وفي لفظ: «من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد».
هذا الحديث أحد الأحاديث الأركان من أركان الشريعة لكثرة ما يدخل تحته من الأحكام وقوله: «فهو رد» أي مردود أطلق المصدر على اسم المفعول.
ويستدل به على إبطال جميع العقود الممنوعة وعدم وجود ثمراتها.
واستدل به في أصول الفقه على أن النهي يقتضي الفساد نعم قد يقع الغلط في بعض المواضع لبعض الناس فيما يقتضيه الحديث من الرد لأنه قد يتعرض أمران فينتقل من أحدهما إلى الآخر ويكون العمل بالحديث في أحدهما كافيا ويقع الحكم به في الآخر في محل النزاع فللخصم أن يمنع دلالته عليه فتنبه لذلك.
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك».
استدل به بعضهم على القضاء على الغائب وفيه ضعف من حيث أنه يحتمل الفتوى بل ندعي أنه يتعين ذلك للفتوى لأن الحكم يحتاج إلى إثبات السبب المسلط على الأخذ من مال الغير ولا يحتاج إلى ذلك في الفتوى وربما قيل: إن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ولا يقضي على الغائب الحاضر في البلد مع إمكان إحضاره وسماعه للدعوى عليه في المشهور من مذاهب الفقهاء فإن ثبت أنه كان حاضرا فهو وجه يبعد الاستدلال عنه الأكثرين من الفقهاء وهذا يبعد ثبوته إلا أن يؤخذ بطريق الاستصحاب بحال حضوره.
نعم فيه دليل على مسالة للظفر بالحق وأخذه من غير مراجعة من هو عليه.
ولم يدل الحديث على جواز أخذها من الجنس أو من غير الجنس ومن يستدل بالإطلاق في مثل هذا يجعله حجة في الجميع.
واستدل به على أنه لا يتوقف أخذ الحق من مال من عليه على تعذر الإثبات عند الحاكم وهو وجه للشافعية لأن هندا كان يمكنها الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الحق بحكمه.
وفيه دليل على أن النفقة غير مقدرة بمقدار معين بل بالكفاية لقوله: «ما يكفيك وبنيك».
وفيه دليل على تصرف المرأة في نفقة ولدها في الجملة.
وقد يستدل به من يرى أن للمرأة ولاية على ولدها من حيث أن صرف المال إلى المحجور عليه أو تمليكه له يحتاج إلى ولاية وفيه نظر لوجود الأب فيحتاج إلى الجواب عن هذا التوجيه المذكور فقد يقال إن تعذر استيفاء الحق من الأب أو غيره مع تكرر الحاجة دائما يجعله كالمعدم وفيه نظر أيضا.
وفيه دليل على جواز ذكر بعض الأوصاف المذمومة إذا تعلقت بها مصلحة أو ضرورة.
وفيه دليل على أن ما يذكر في الاستفتاء لأجل ضرورة معرفة الحكم إذا تعلق به أذى الغير لا يوجب تعزيرا.
3- عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو يذرها».
فيه دليل على إجراء الأحكام على الظاهر وإعلام الناس بأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كغيره وإن كان يفترق مع الغير في إطلاعه على ما يطلعه الله عز وجل عليه من الغيوب الباطنة وذلك في أمور مخصوصة لا في الأحكام العامة وعلى هذا يدل قوله عليه السلام: «إنما أنا بشر» وقد قدمنا في أول الكتاب أن الحصر في إنما يكون عاما يكون خاصا هذا من الخاص وهو فيما يتعلق بالحكم بالنسبة إلى الحجج الظاهرة.
ويستدل بهذا الحديث من يرى أن القضاء لا ينفذ في الظاهر والباطن معا مطلقا وإن حكم القاضي لا يغير حكما شرعيا في الباطن.
واتفق أصحاب الشافعي على أن القاضي الحنفي إذا قضى بشفعة الجار للشافع أخذها في الظاهر واختلفوا في حل ذلك في الباطن له على وجهين.
والحديث عام بالنسبة إلى سائر الحقوق والذين يتفقون عليه- اعني أصحاب الشافعي- أن الحجج إذا كانت باطلة في نفس الأمر بحيث لو اطلع عليها القاضي لم يجز له الحكم بها إن ذلك لا يؤثر وإنما وقع التردد في الأمور الاجتهادية إذا خالف اعتقاد القاضي اعتقاد المحكوم له كما قلنا في شفعة الجار.
4- عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما قال: كتب أبي أو كتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان».
وفي رواية: «لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان».
النص وارد في المنع من القضاء حالة الغضب وذلك لما يحصل للنفس بسببه من التشويش الموجب لاختلال المنظر وعدم استيفائه على الوجه وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل منه ما يشوش الفكر كالجوع والعطش وهو قياس مظنة على مظنة فإن كل واحد من الجوع والعطش مشوش للفكر ولو قضى مع الغضب والجوع لنفذ إذا صادف الحق وقد ورد في بعض الأحاديث ما يدل على ذلك وكأن الغضب إنما خص لشدة استيلائه على النفس وصعوبة مقاومته.
وفيه دليل على أن الكتابة بالحديث كالسماع من الشيخ في وجوب العمل وأما في الرواية فقد اختلفوا في ذلك والصواب أن يقال إن أدى الرواية بعبارة مطابقة للواقع جاز كقوله: كتب إلي فلان بكذا وكذا.
5- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟»- ثلاثا- قلنا: بلى يا رسول الله, قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين», وكان متكئا فجلس وقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
فيه مسائل:
الأولى: قد يدل الحديث على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر وعليه أيضا يدل قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وفي الاستدلال بهذا الحديث على ذلك نظر لأن من قال: كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد فيصير كأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب.
وعن بعض السلف أن كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وظاهر القرآن والحديث على خلافه ولعله أخذ الكبيرة باعتبار الوضع اللغوي ونظر إلى عظم المخالفة للأمر والنهي وسمى كل ذنب كبيرة.
الثانية: يدل على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر لقوله عليه السلام: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» وذلك بحسب تفاوت مفاسدها ولا يلزم من كون هذه أكبر الكبائر استواء رتبها أيضا في نفسها فإن الإشراك بالله أعظم كبيرة من كل ما عداه من الذنوب المذكورة في الأحاديث التي ذكر فيها الكبائر.
الثالثة: اختلف الناس في الكبائر.
فمنهم من قصد تعريفها بتعددها وذكروا في ذلك أعدادا من الذنوب ومن سلك هذه الطريقة فليجمع ما ورد في ذلك في الأحاديث إلا أنه لا يستفيد بذلك الحصر ومن هذا قيل: إن بعض السلف قيل له: أنها سبع فقال: إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.
ومنهم من سلك طريق الحصر بالضوابط فقيل عن بعضهم: إن كل ذنب قرن به وعيد أو لعن أو حد فهو من الكبائر فتغيير منار الأرض كبيرة لاقتران اللعن به وكذا قتل المؤمن لاقتران الوعيد به والمحاربة به والزنا والسرقة والقذف كبائر لاقتران الحدود بها واللعنة ببعضها.
وسلك بعض المتأخرين طريقا فقال: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإذا نقصت على أقل مفاسد الكبائر فهي من مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليه فهي من الكبائر وعد من الكبائر شتم الرب تبارك وتعالى أو الرسول والاستهانة بالرسل وتكذيب واحد منهم وتضميخ الكعبة بالعذرة وإلقاء المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة.
وهذا الذي قاله داخل عندي فيما نص عليه الشرع بالكفر إن جعلنا المراد بالإشراك بالله مطلق الكفر على ما سنسببه عليه ولابد مع هذا من أمرين:
أحدهما: أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فإنه قد يقع غلط في ذلك ألا ترى أن السابق إلى الذهن أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل فإن أخذنا هذا بمجرده لزم منه أن لا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة لخلائها عن المفسدة المذكورة لكنها كبيرة فإنها وإن خلت عن المفسدة المذكورة إلا أنه يقترن بها مفسدة الإقدام والتجري على شرب الكثير الموقع في المفسدة فبهذا الاقتران تصير كبيرة.