الثاني: أنا إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى بعض الكبائر مساويا لبعض الكبائر أو زائدا عليها فإن من أمسك امرأة محصنة لم يزني بها أو مسلما معصوما لمن يقتله فهو كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال الربا أو أكل مال اليتيم وهو منصوص عليهما وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تفضي إلى قتلهم وسبي.
ذراريهم وأخذ أموالهم كان ذلك أعظم من فراره من الزحف والفرار من الزحف منصوص عليه دون هذه وكذلك تفعل على هذا القول الذي حكيناه من أن الكبيرة ما رتب عليها اللعن أو الحد أو الوعيد فتعتبر مفاسد بالنسبة إلى ما رتب عليه من ذلك فما ساوى أقلها فهو كبيرة وما نقص عن ذلك فليس بكبيرة.
الرابعة: قوله عليه السلام: «الإشراك بالله» يحتمل أن يراد به مطلق الكفر فيكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود لاسيما في بلاد العرب فذكر تنبيها على غيره ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك وهو كفر التعطيل فبهذا يترجح الاحتمال الأول.
الخامسة: عقوق الوالدين معدود من أكبر الكبائر في هذا الحديث ولا شك في عظم مفسدته لعظم حق الوالدين إلا أن ضبط الواجب من الطاعة لهما والمحرم من العقوق لهما فيه عسر ورتب العقوق مختلفة.
قال شيخنا الإمام أبو محمد بن عبد السلام: ولم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه فإن ما يحرم في حق الأجانب فهو حرام في حقهما وما يجب للأجانب فهو واجب لهما فلا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء وقد حرم على الولد السفر إلى الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجعهما على ذلك وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو على عضو من أعضائه وقد ساوى الوالدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى انتهى كلامه.
والفقهاء قد ذكروا صورا جزئية وتكلموا فيها منثورة لا يحصل ضابط كلي فليس يبعد أن يسلك في ذلك ما أشرنا إليه في الكبائر وهو أن تقاس المصالح في طرف الثبوت بالمصالح التي وجبت لأجلها والمفاسد في طرف العدم بالمفاسد التي حرمت لأجلها.
السادسة: اهتمامه عليه السلام بأمر شهادة الزور أو قول الزور يحتمل أن تكون لأنها أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر فبمفسدتها أيسر وقوعا ألا ترى أن المذكور معها هو الإشراك بالله؟ ولا يقع فيه المسلم وعقوق الوالدين والطبع صارف عنه.
وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة كالعداوة وغيرها فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها وهو الإشراك قطعا «قول الزور وشهادة الزور» ينبغي أن يحمل قوله الزور على شهادة الزور فإنا لو حملناها على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك وقد نص الفقهاء على أن الكذبة الواحدة.
وما يقاربها لا تسقط العدالة ولو كانت كبيرة لسقطت وقد نص الله تعالى على عظم بعض الكذب فقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء:112] وعظم الكذب ومراتبه تتفاوت بحسب تفاوت مفاسده وقد نص في الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة لإيجابها الحد ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلا أو قبح بعض الهيئة في اللباس مثلا والله أعلم.
6- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه».
الحديث دليل على أنه لا يجوز الحكم إلا بالقانون الشرعي الذي رتب وإن غلب على الظن صدق المدعي ويدل على أن اليمين على المدعى عليه مطلقا وقد اختلف الفقهاء في اشتراط أمر آخر في وجه اليمين على المدعى عليه وفي مذهب مالك وأصحابه تصرفات بالتخصيصات لهذا العموم خالفهم فيها غيرهم منها: اعتبار الخلطة بين المدعي والمدعى عليه في اليمين ومنها أن من ادعى سببا من أسباب القصاص لم تجب به اليمين إلا أن يقيم على ذلك شاهدا فتجب اليمين ومنها إذا ادعى رجل على امرأة نكاحا لم يجب له عليها من يمين في ذلك قال سحنون: منهم إلا أن يكونا طارئين ومنها أن بعض الأمناء ممن يجعل القول قوله لا يوجبون عليه يمينا ومنها: دعوى امرأة طلاقا على الزوج وكل من خالفهم في شيء من هذا يتدل بعموم هذا الحديث.
.كتاب الأطعمة:
.مدخل:
1- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه-: «إن الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وأن لكل ملك حمى ألا وأن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين فأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلا في هذا الباب وهو أصل كبير في الورع وتارك المتشابهات في الدين.
والشبهات لها مثارات:
منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل أو تعارض الأمارات والحجج ولعل قوله عليه السلام: «لا يعلمهن كثير من الناس» إشارة إلى هذا المثار مع أنه يحمل أن يراد: لا يعلم عينها وإن علم حكم أصلها في التحليل والتحريم وهذا أيضا من مثار الشبهات.
وقوله عليه السلام: «من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» أصل في الورع وقد كان في عصر شيوخ شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة وصنفوا فيها تصانيف وكان بعضهم سلك طريقا في الورع فخالفه بعض أهل عصره وقال: إن كان هذا الشيء مباحا- والمباح ما استوى طرفاه- فلا ورع فيه لأن الورع ترجيح لجانب الترك والترجيح لأحد الجانبين مع التساوي محال وجمع بين المتناقضين وبنى على ذلك تصنيفا.
والجواب عن هذا عندي من وجهين:
أحدهما: أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في فعله وإن لم يتساو طرفاه وهذا أعم من المناخ المتساوي الطرفين فهذا الذي ردد فيه القول وقال: إما أن يكون مباحا أو لا فإن كان مباحا فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على هذا المعنى فإن المباح قد صار منطلقا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين فلا يدل اللفظ على التساوي إذ الدال على العام لا يدل على الخاص بعينه.
الثاني: أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته راجحا باعتبار أمر خارج ولا يتناقض حينئذ الحكمان.
وعلى الجملة: فلا يخلو هذا الموضع من نظر فإنه إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبا لضرر ما في الآخرة وإلا فيعسر ترجيح تركه إلا أن يقال: إن تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف ما يفهم من أفعال الورعين فإنهم يتركون ذلك تحرجا وتخوفا وبه يشعر لفظ الحديث.
وقوله عليه السلام: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» يحتمل وجهين.
أحدهما: أنه إذا عود نفسه عدم التحرز مما يشتبه أثر ذلك استهانة في نفسه توقعه في الحرام مع العلم به.
والثاني: أنه إذا تعاطى الشبهات وقع في الحرام في نفس الأمر فمنع من تعاطي الشبهات لذلك.
وقوله عليه السلام: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» من باب التمثيل والتشبيه و«يوشك» بكسر الشين بمعنى يقرب و«الحمى» المحمي أطلق المصدر على اسم المفعول وتنطلق المحارم على المنهيات قصدا وعلى ترك المأمورات التزاما وإطلاقها على الأول أشهر.
وقد عظم الشارع أمر القلب لصدور الأفعال الاختيارية عنه وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم ورتب الأمر فيه على المضغة والمراد المتعلق بها ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم أو الاعتقاد بالمفاسد والمصالح.
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها فقبله».
يقال لغبوا إذا أعيوا وأنفجت الأرنب بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وسكون الجيم فنفج أي: أثرته فثار كأنه يقول: أثرناه وذعرناه فعدا ومر الظهران موضع معروف.
والحديث دليل على جواز أكل الأرنب فإنه إنما ينتفع ببعضها إذا ذبحت بالأكل وفيه دليل على الهدية وقبولها.
3- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه).
وفي رواية: «ونحن بالمدينة».
4- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل).
ولمسلم وحده قال: (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي).
يستدل بهذين الحديثين من يرى جواز أكل الخيل وهو مذهب الشافعي وغيره وكرهه مالك وأبو حنيفة واختلف أصحاب أبي حنيفة هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم؟ والصحيح عندهم أنها كراهة تحريم واعتذر بعضهم عن هذا الحديث أعني بعض الحنفية بأن قال: فعل الصحابي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون حجة إذا علمه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه شك على أنه معارض بقول بعض الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الخيل ثم إن سلم عن المعارض ولكن لا يصح التعلق به في مقابلة دلالة النص.
وهذا إشارة إلى ثلاثة أجوبة:
فأما الأول: فإنما يرد على هذه الرواية والرواية الأخرى لجابر وأما الرواية التي فيها: (و أذن في لحوم الخيل) فلا يرد عليها التعلق.
وأما الثاني: وهو المعارضة بحديث التحريم فإنما نعرفه بلفظ النهي لا بلفظ التحريم من حديث خالد بن الوليد وفي ذلك الحديث كلام ينقض به عن مقاومة هذا الحديث عند بعضهم.
وأما الثالث: فإنما أراد بدلالة الكتاب قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ووجه الاستدلال أن الآية خرجت مخرج الامتنان بذكر النعم على ما دل عليه سياق الآيات التي في سورة النحل فذكر الله تعالى الامتنان بنعمة الركوب والزينة في الخيل والبغال والحمير وترك الامتنان بنعمة الأكل كما ذكر في الأنعام ولو كان الأكل ثابتا لما ترك الامتنان به لأن نعمة الأكل في حنسها فوق نعمة الركوب والزينة فإنه يتعلق بها البقاء بغير واسطة ولا يحسن ترك الامتنان بأعلى النعمتين وذكر الامتنان بأدناهما فدل ترك الامتنان بالأكل على المنع منه ولاسيما وقد ذكرت نعمة الأكل في نظائرها من الأنعام وهذا- وإن كان استدلالا حسنا- إلا أنه يجاب عنه من وجهين:
أحدهما: ترجيح دلالة الحديث على الإباحة على هذا الوجه من الاستدلال من حيث قوته بالنسبة إلى بلك الدلالة.
الثاني: أن يطالب بوجه الدلالة على عين التحريم فإنما يشعر بترك الأكل وترك الأكل أعم من كونه متروكا على سبيل الحرمة أو على سبيل الكراهة.
وفي الحديث دليل من حيث ظاهر اللفظ في هذه الرواية على جواز النحر للخيل.
وقوله: (و نهى النبي صلى الله عليه وسلم الخ) يستدل به من يرى تحريم الحمر الأهلية لظاهر النهي وفيه خلاف لبعض العلماء بالكراهة المغلظة وفيه احتراز عن الحمار الوحشي ودلالة على جواز أكله بطريق المفهوم.
5- عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور وربما قال: ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا).
هذه الرواية تشتمل على لفظ التحريم وهو أدل من لفظ النهي وأمره عليه السلام بإكفاء القدور محمول على أن سببه تحريم الأكل للحومها عند جماعة وقد ورد فيه علتان أخريان أحدهما: أنها أخذت قبل المقاسم والثانية: أنه لأجل كونها من جوال القرية ولكن المشهور والسابق إلى الفهم أنه لأجل التحريم فإن صحت تلك الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم تعين الرجوع إليها وكفأت القدر قلبته ففرغت ما فيه.