وأما المعارض فمنه ما روى عبد الله بن عمر وهو أخو عبيد الله الذي قدمنا ذكره عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يوم خيبر للفارس سهمين وللرجال سهما قال الشافعي: وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ وقال في القديم: فإنه سمع نافعا يقول للفرس سهمين وللرجل سهما فقال: للفرس سهمين وللرجل سهما.
قلت: وعبيد الله وعبد الله هذان هما ابنا عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
وما ذكره الشافعي من تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه عند أهل العلم فهو كذلك ولكن في حديث مجمع بن جارية ما يعضده ويوافقه وهو حديث رواه أبو داود من حديث مجمع بن يعقوب بن مجمع عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن قال: شهدت الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قال: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: «نعم, والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» فقسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيه ثلاثة مائة فارس فأعطى للفارس سهمين وأعطى للرجال سهما رواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن مجمع وهذا يوافق رواية عبد الله بن عمر في قسم خيبر إلا أن الشافعي قال في مجمع بن يعقوب أنه شيخ لا يعرف فقال: فأخذنا في ذلك بحديث عبيد الله ولم نر له خبرا مثله يعارضه ولا يجوز خبر إلا بخبر مثله.
18- وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث في السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش.
هذا هو التنفيل بالمعنى الثاني الذي ذكرناه في معنى النفل وهو أن يعطي الإمام لسرية أو لبعض أهل الجيش خارجا عن السهمين والحديث مصرح بأنه خارج عن قسم عامة الجيش إلا أنه ليس مبينا لكونه من رأس الغنيمة أو من الخمس فإن اللفظ محتمل لها جميعا والناس مختلفون في ذلك ففي رواية مالك عن أبي الزناد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول كان الناس يعطون النفل من الخمس وهذا مرسل وروى محمد بن إسحاق عن نافع ابن عمر قال: بعث رسول الله سرية إلى نجد فخرجت معها فأصبنا نعما كثيرة فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرا بعد الخمس وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا ولا عاب عليه ما صنع فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله.
وهذا يدل على أن التنفيل من رأس الغنيمة وروى زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة وهذا أيضا يدل على أن التنفيل.
من أصل الغنيمة ظاهرا مع احتماله لغيره وروى في حديث حبيب هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل» وهذا يحتمل أن يكون المراد منه ينفل بعد إخراج الخمس أي ينفله من أربعة أخماس ما يأتون به ردء الغنيمة إلى موضع في البدأة او في الرجعة وهذا ظاهر وترجم أبو داود عليه باب فيمن قال: الخمس قبل النفل وأبدى بعضهم فيه احتمالا آخرا وهو أن يكون قوله بعد الخمس أي بعد أن ينفرد الخمس فعلى هذا يبقى محتملا لأن ينفل ذلك من الخمس أو من غير الخمس فيحمله على أن ينفل من الخمس احتمالا وحديث ابن إسحاق صريح أو كالصريح.
وللحديث تعلق بمسائل الإخلاص في الأعمال وما يضر من المقاصد الداخلة وما لا يضر وهو موضع دقيق المأخذ ووجه تعلقه به أن التنفيل للترغيب في زيادة العمل والمخاطرة والمجاهدة وفي ذلك مداخله لقصد الجهاد لله تعالى إلا أن ذلك لم يضرهم قطعا لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ففي ذلك دلالة لا شك فيها على أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا يقدح من الإخلاص وإنما الإشكال في ضبط قانونها وتمييز ما يضر مداخلته من المقاصد ويقتضي الشركة فيه المنافاة للإخلاص وما لا تقتضيه ويكون تبعا لا له ويتفرع عنه غير ما مسألة.
وفي الحديث دلالة على أن لنظر الإمام مدخلا في المصالح المتعلقة في المال أصلا وتقديرا على حسب المصلحة على ما اقتضاه حديث حبيب بن مسلمة في الربع والثلث فإن الرجعة لما كانت أشق على الراجعين واشد لخوفهم لأن العدو قد كان نذر بهم لقربهم فهو على يقظة من أمرهم اقتضى زيادة التنفيل والبدأة لما لم يكن فيها هذا المعنى اقتضى نقصه ونظر الإمام متقيد بالمصلحة لا على أن يكون بحسب التشهي حيث يقال: إن النظر للإمام إنما يعني هذا أعني أن يفعل ما تقتضيه المصلحة لا أن يفعل على حسب التشهي.
19- عن أبي موسى عبد الله بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا».
حمل السلاح: يجوز أن يراد به ما يضاد وضعه ويكون ذلك كناية عن القتال به وأن يكون حمله ليراد به القتال ودل على ذلك قرينة قوله عليه السلام: «علينا» ويحتمل أن يراد به ما هو أقوى من هذا وهو الحمل للضرب فيه أي في حالة القتال والقصد بالسيف للضرب به وعلى كل حال فهو دليل على تحريم قتال المسلمين وتغليظ الأمر فيه.
وقوله: «فليس منا» قد يقتضي ظاهره الخروج عن المسلمين لأنه إذا حمل: «علينا» على أن المراد به المسلمون كان قوله: «فليس منا» كذلك وقد ورد مثل هذا فاحتاجوا إلى تأويله كقوله عليه السلام: «من غشنا فليس منا» وقيل فيه: ليس مثلنا أو ليس على طريقتنا أو ما يشبه ذلك فإذا كان الظاهر كما ذكرناه ودل الدليل علة عدم الخروج عن الإسلام بذلك اضطررنا إلى التأويل.
20- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
في الحديث دليل على وجوب الإخلاص في الجهاد وتصريح بأن القتال للشجاعة والحمية والرياء خارج عن ذلك.
فأما الرياء: فهو ضد الإخلاص بذاته لاستحالة اجتماعهما- أعني أن يكون القتال لأجل الله تعالى ويكون بعينه لأجل الناس.
وأما القتال للشجاعة فيحتمل وجوها: أحدها: أن يكون التعليل داخلا في قصد المقاتل أي قاتل لأجل إظهار الشجاعة فيكون فيه حذف مضاف وهذا لا شك في منافاته للإخلاص وثانيها: أن يكون ذلك تعليلا لقتاله من غير دخول له في القصد بالقتال كما يقال: أعطى لكرمه ومنع لبخله وآذى لسوء خلقه وهذا بمجرده من حيث هو هو لا يجوز أن يكون مرادا بالسؤال ولا الذم فإن الشجاع المجاهد في سبيل الله إنما فعل ما فعل لأنه شجاع غير أنه ليس يقصد به إظهار الشجاعة ولا قصد إظهار الشجاعة في التعليل وثالثها: أن يكون المراد بقولنا: قاتل للشجاعة: أنه يقاتل لكونه شجاعا فقط وهذا غير المعنى الذي قبله لأن الأحوال ثلاثة: حال يقصد بها إظهار الشجاعة وحال يقصد بها إعلاء كلمة الله تعالى وحال يقاتل فيها لأنه شجاع إلا أنه لم يقصد إعلاء كلمة الله تعالى ولا إظهار الشجاعة عنه وهذا يمكن فإن الشجاع الذي تداهمه الحرب وكانت طبيعته المسارعة إلى القتال يبدأ بالقتال لطبيعته وقد لا يستحضر أحد الأمرين- أعني أنه لغير الله تعالى أو لإعلاء كلمة الله تعالى.
ويوضح الفرق بينهما أيضا: أن المعنى الثاني لا ينافيه وجود قصد فإنه يقال: قاتل إعلاء كلمة الله تعالى لأنه شجاع وقاتل للرياء لأنه شجاع فإن الجبن مناف للقتال مع كل قصديفرض وأما المعنى الثالث: فإنه ينافيه القصد لأنه أخذ فيه القتال للشجاعة بقيد التجرد عن غيرها ومفهوم الحديث أنه في سبيل الله تعالى إذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وليس في سبيل الله إذا لم يقاتل لذلك.
فعلى الوجه الأول: تكون فائدته بيان أن القتال لهذه الأغراض مانع وعلى الوجه الأخير تكون فائدته: إن القتال لأجل إعلاء كلمة الله تعالى شرط وقد بينا الفرق بين المعنيين وقد ذكرنا أن مفهوم الحديث الاشتراط لكن إذا قلنا بذلك فلا ينبغي أن نضيق فيه بحيث تشترط مقارنته لساعة شروعه في القتال بل بالخروج إليه لإعلاء كلمة الله تعالى ويشهد لهذا الحديث الصحيح في أنه يكتب للمجاهد استنان فرسه وشربها في النهر من غير قصد لذلك لما كان القصد الأول من الجهاد واقعا لم يشترط أن يكون ذلك في الجزئيات ولا يبعد أن يكون بينهما فرق إلا أن الأقرب عندنا ما ذكرناه من أنه لا يشترط اقتران القصد بأول الفعل المخصوص بعد أن يكون القصد صحيحا في الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى دفعا للحرج والمشقة فإن حالة الفزع حالة دهش وقد تأتي على غفلة فالتزام حضور الخواطر في ذلك الوقت حرج ومشقة.
ثم إن الحديث يدل على أن المجاهد في سبيل الله مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا والمجاهد لطلب ثواب الله تعالى والنعيم المقيم مجاهد في سبيل الله ويشهد له فعل الصحابة وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض» فألقى الثمرات التي كن في يده وقاتل حتى قتل وظاهر هذا أنه قاتل لثواب الجنة والشريعة كلها طافحة بان الأعمال لأجل الجنة أعمال صحيحة غير معلولة لأن الله تعالى ذكر صفة الجنة وما أعد فيها للعاملين ترغيبا للناس في العمل ومحال أن يرغبهم للعمل للثواب ويكون ذلك معلولا مدخولا اللهم إلا أن يدعى أن غير هذا المقام أعلى منه فهذا قد يتسامح فيه وأما أن يكون علة في العمل فلا.
فإذا ثبت هذا وأن المقاتل لثواب الله وللجنة مقاتل في سبيل الله تعالى فالواجب أن يقال:
أحد الأمرين إما أن يضاف إلى هذا لامقصود- أعني القتال إعلاء كلمة الله تعالى- ما هو مثله أو ما يلازمه كالقتال لثواب الله تعالى وإما أن يقال: إن المقصود بالكلام وسياقه بيان أن هذه المقاصد منافية للقتال في سبيل الله فإن السؤال إنما وقع عن القتال لهذه المقاصد وطلب بيان أنها في سبيل الله فإن السؤال إنما وقع عن القتال لهذه المقاصد وطلب بيان أنها في سبيل الله أم لا؟ فخرج الجواب عن قصد السؤال بعد بيان منافاة هذه المقاصد للجهاد في سبيل الله هو بيان أن هذا القتال إعلاء كلمة الله تعالى هو قتال في سبيل الله لا على أن سبيل الله للحصر وأن لا يكون غيره في سبيل الله مما لا ينافي الإخلاص كالقتال لطلب الثواب والله أعلم.
وأما القتال حمية فالحمية من فعل القلوب فلا يقتضي ذلك إلا أن يكون مقصود الفاعل إما مطلقا وإما في مراد الحديث ودلالة السياق وحينئذ يكون قادحا في سبيل الله تعالى إما لانصرافه إلى هذا الفرض وخروجه عن القتال إعلاء كلمة الله تعالى وإما لمشاركته المشاركة القادحة في الإخلاص ومعلوم أن المراد بالحمية الحمية لغير دين الله وبهذا يظهر لك ضعف الظاهرية في مواضع كثيرة ويتبين أن الكلام يستدل على المراد منه بقرائنه وسياقه ودلالة الدليل الخارج عن المراد منه وغير ذلك.
فإن قلت: فإذا حلت قوله قاتل للشجاعة أي إظهار الشجاعة فما لفائدة بعد ذلك في قولهم: يقاتل رياء.
قلت: يحتمل أن يراد بالرياء إظهار قصده للرغبة في ثواب الله تعالى والمسارعة للقربات وبذل النفس في مرضاة الله تعالى والمقاتل إظهار الشجاعة مقاتل لغرض دنيوي وهو تحصيل المحمدة والثناء من الناس عليه بالشجاعة والمقصدان مختلفان ألا ترى أن العرب في جاهليتها كانت تقاتل للحمية وإظهار الشجاعة ولم يكن لها قصد في المراءاة بإظهار الرغبة في ثواب الله تعالى والدار الآخرة؟ فافترق القصدان.
وكذلك أيضا القتال للحمية مخالف للقتال شجاعة والقتال للرياء لأن الأول يقاتل لطلب المحمدة بخلق الشجاعة وصفتها وإنها قائمة بالمقاتل وسجية له والقتال للحمية قد لا يكون كذلك وقد يقاتل الجبان حمية لقومه أو لحريمه مكره أخاك لا بطل والله أعلم.
.كتاب العتق:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق».
الكلام عليه من وجوه:
الأول: صيغة من للعموم فيقتضي دخول أصناف المعتقين في الحكم المذكور ومنهم المريض وقد اختلف في ذلك فالشافعية يرون أنه إن خرج من الثلث جميع العبد قوم عليه نصيب الشريك وعتق عليه لأن تصرف المريض في ثلثه كتصرف الصحيح في كله ونقل أحمد أنه لا يقوم في حال المريض وذكر قاضي الجماعة أبو الوليد ابن رشد المالكي عن ابن الماجشون من المالكية فيمن أعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه في المرض أنه لا يقوم عليه نصيب شركه إلا من رأس ماله إن صح وإن لم يصح لم يقوم في الثلث على حال وعتق منه حظه وحده والعموم كما ذكرناه يقتضي التقويم وتخصيصه بما يحتمله الثلث مأخوذ من الدليل الدال على اختصاص تصرف المريض بالتبرعات بالثلث.