قال تعالى: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}... (طه : 49- 50).
قال المفسرون الآيات:
ربكما: أي رب موسى وهارون (رب العالمين سبحانه وتعالى).
خلقه: صورته اللائقة بخاصة.
هدى: أرشده إلى ما يصلح له.
في هذه الآيات الكريمات يقرر القرآن الكريم في إعجاز يأخذ بالألباب أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى كل شيء (من إنسان ونبات وحيوان وكائنات حية دقيقة وجماد) صورته اللائقة بخاصته ثم أرشده إلى ما يصلح له.
وسوف نتناول في هذه المقالة أحد أوجه الإرشاد الربانية للكائنات الحية إلى ما يصلح من شأنها ألا وهي الساعة البيولوجية.
لقد قضى مايكل ميناكر Michael Menaker من جامعة فرجينيا سنوات في دراسة الساعة البيولوجية في بعض الكائنات الحية. فوجد أن الحيوانات التي درسها (السناجب Hamsters، الضفادع Frogs، الاجوانا Iguana (من الزواحف) يوجد بها خلايا تعمل كالساعة Clock cells، وتقع في شبكية العين Retina، وقام بجمع هذه الخلايا وحفظها حية في محاليل مغذية، وبدأ يلاحظ دقاتها أو إيقاعاتها الزمنية.
ماذا وجد؟ وجد أنها تسلك سلوكاً متشابهاً في كل هذه الحيوانات، فتساءل: ما الذي تستفيده هذه الحيوانات من معرفة الوقت؟
والإجابة بسيطة: من مصلحة هذه الحيوانات أن تعرف الوقت مهما كان موقعها في سلم الحياة والرقى، هذه الحيوانات تحاول دائما أن تجد فريستها مع عدم وقوعها فريسة لغيرها، كما أن بعضها يجد الليل مناسبا للبحث عن الطعام والاختباء بعيدا عن أعين الأعداء، وهذه تعرف بالحيوانات الليلية Nocturnal يقول الله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}... (الأنعام : 13).
والبعض الآخر يجد الليل مظلماً بارداً لا يصلح للصيد فيفضل قضاؤه في النوم حتى يستطيع أن يستيقظ مبكراً للبحث عما كتبه الله له من رزق في هذا اليوم الجديد، وهذه تعرف بالحيوانات النهارية Diurnal والإنسان يقع ضمن هذه الفئة الأخيرة.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ...}... (الإسراء : 12).
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}... (النبأ : 10-11).
التنبؤ عند الحيوانات
من مصلحة الحيوانات كذلك أن تتنبأ Predict أو تتوقع التغيرات البيئية، وتستعد لها أفضل من أن تتفاعل معهاReact بعد حدوثها. فمثلا التناسل في كثير من الأنواع يحدث في أوقات محددة خلال العام.
فالنباتات تنتج حبوب اللقاح Pollen في الوقت الذي تنشط فيه الملقحات Pollinators،والحيوانات تلد عند اعتدال الجو وتوفر المرعى الأخضر. والفترة الضوئية Photoperiod هي التي تحكم التناسل في هذه الأنواع، خاصة في المناطق البعيدة عن خط الاستواءEquator حيث يحدث اختلاف واضح في طول الليل والنهار في المواسم المختلفة.
والأغنام في البلاد الشمالية مثل بريطانيا مثلاً موسمية التناسل Seasonal breeder حيث تدخل موسم التناسل عندما تبدأ الفترة الضوئية في النقصان، ويكون ذلك في بداية فصل الخريف ومن هنا جاءت التسمية Short-day breeders (أي الحيوانات التي تتناسل في النهار القصير)
وعلى العكس منها أنواع أخرى من الحيوانات مثل الخيل الموسمية تدخل موسم التناسل عندما تبدأ الفترة الضوئية في الازدياد (الربيع) أي أنها Long-day breeders ، والهدف في كلا الحالتين واحد: الولادة في الوقت المناسب.
وتجدر الإشارة إلى أن طول فترة الحمل تبلغ حوالي خمسة شهور في الأغنام، 11 شهرا في الخيل. وإذا عرفنا أن هناك أنواعاً من الحيوانات مثل الكلاب والذئاب والثعالب والدببة تتناسل مرة واحدة في العام لأدركنا أهمية معرفة الوقت بالنسبة لهذه الأنواع، أنه مسألة حياة أو موت بالنسبة لها، لأنها إذا لم تتناسل في هذه الفترة المحدودة والتي تستمر لبضعة أيام فقط خلال العام كله، فإن عليها أن تنتظر عاما آخر إذا كان في العمر بقية. مع العلم بأن الأنثى في الحيوانات لا تقبل الذكر في أي وقت، وإنما في وقت محدد من الدورة التناسلية Estrous cycle ، ويكون بغرض إخصاب البويضات.
والحشرات التي تتميز بالبيات الشتوي مثل الذبابة المنزلية، والخنفساء المرقطة، وبعض أنواع الفراشات والبعوض، قبل دخولها في البيات الشتوي، فإن دم اليرقة أو العذراء أو الحشرة الكاملة - أيا كانت - ينتج مواد تسمى جليكولات Glycols تشبه المواد المانعة للتجمد Antifreeze. هذه المواد هي التي تمكن الحشرات من تحمل البرد القارص.
ويعتقد العلماء أن إنتاج الجليكولات يبدأ عندما تقل الفترة الضوئيةPhoto-period أي عندما يبدأ طول النهار في النقصان، وذلك في الخريف وبداية الشتاء.
ويقل إنتاج الجليكولات بعد انتهاء الشتاء وقدوم الربيع حيث تستبدل بالدم الطبيعي، ويستعد الدب لبياته الشتوي بابتلاع كميات كبيرة من الطعام في أواخر فصل الصيف لتخزينه في جسمه على هيئة دهن، وحينما يحل الشتاء ويندر الطعام، يذهب الدب للنوم في أحد الكهوف أو الحفر الجليدية التي يكون قد أعدها لنفسه. والطيور المهاجرة تبدأ في تخزين الطعام في أجسامها لتسمن قبل موعد هجرتها بأسابيع.
والجراد Locusts يهاجر في أسراب كبيرة في مواعيد محددة إلى أماكن بعيدة، وهجرته ليست بسبب الجوع أو ندرة الغذاء، فقد يهاجر من أرض ذات غذاء وفير، ولكن الوقت قد حان للهجرة، وبعد وصوله إلى غايته في الوقت المحدد أيضا فانه يقضى على كل مظاهر الحياة النباتية في المكان الجديد شر قضاء.
أنظر إلى النحلة Honeybee أيضا لتعرف أهمية الوقت بالنسبة لها لقد علمها الخالق جل شأنه أن تضبط الوقت بدقة متناهية، فإذا ما وجدت زهرة متفتحة أثناء رحلتها للبحث عن الطعام وحطت رحالها عليها لتمتص منها الرحيق، فإنها تسجل الوقت والمكان بدقة متناهية، وفى اليوم التالي يتلقى مخها إشارة بأن الوقت قد حان وأن عليها زيارة تلك الزهرة لجمع الرحيق، ولو فرض ولم تجد رحيقا في اليوم التالي فإنها تسجل ذلك في مخها أيضا، وتذهب إلى زهرة أخرى وتسجلها عندها، وفى النهاية يتكون لديها سجل تفصيلي عن هذا الحقل الذي تطير إليه يوميا لجمع الرحيق منه، فالوقت كل شئ في حياتها.
وقد استنتج العلماء أن الساعة البيولوجية لابد وأن تكون قديمة قدم الحياة نفسها وأن الخالق العظيم قد وهبها لجميع المخلوقات، كل وما يناسبه من الساعات، ولم يحرم منها كائن من كان حتى، ولو كان هذا الكائن وحيد الخلية، كما اعترفت بذلك الأبحاث الحديثة. وهذا إن دل فإنما يدل على أهمية الوقت في حياتنا وحياة جميع الكائنات الحية.
حتى النبات لديه ساعة بيولوجية رغم أن النباتات تبدو ساكنة وصامتة، إلا أن بداخلها ساعة بيولوجية تدق على مدار 24 ساعة يومياً مثلها مثل الحيوانات والحشرات، هذا ما أكتشفه الباحثون خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وفى دراسة نشرت في عدد ديسمبر 2002 من مجلة فسيولوجيا النباتPlant physiology ، تقول أنه كما يحتاج البشر إلى ساعة توقظهم من نومهم وتنظم لهم مواعيدهم، كذلك النباتات تحتاج إلى من يخبرها بموعد شروق شمس الصباح حتى تهيئ نفسها، وتستعد للقيام بمهامها.
ويتم ضبط الساعة النباتية بها بحيث تعطى إنذاراٍ للنبات في فترة الضحى بأن يستعد لضوء الشمس الشديد، وينشط العمليات التي تقوم بالتمثيل الضوئي وتصنيع الغذاء. هذا ما يقوله أوتار ماتو Autar K. Mattoo الإخصائى في فسيولوجيا النبات في معمل بحوث الخدمات الزراعية، ويضيف أن ساعة النبات تتحكم في إنزيم يقوم بتحوير أو تعديل بروتين يسمى D1 هذا البروتين مهم جداً في عملية التمثيل الضوئي Photosynthesis، وهى العملية التي تستخلص بها النباتات الضوء وتستخدمه في تحويل ثاني أكسيد الكربون والماء والعناصر المعدنية الذائبة في التربة إلى غذاء.
وحينما يتحد D1 مع الفوسفور ينتج بروتين معدل في البلاستيدات الخضراءChloroplasts فى النبات، ويعتقد العلماء أن البروتين المعدل يجبر النبات على تعديل التمثيل الغذائي بحيث يحمى نفسه من الضوء الشديد. وهذه نعمة من نعم الخالق عز وجل على النبات لأن جذوره مثبته في الأرض ولا يستطيع الحراك أو الفرار عندما ترتفع حرارة الشمس ويشتد لهيبها.
ويقول ماتو Matto عندما يتعرض النبات للأشعة فوق البنفسجية U.V. بكثافة شديدة فإنه ينتج جزيئات تسمى فلافونويدات Flavonoids تعمل بمثابة مصفاة وقائية أو مرهم ضد الشمسSunscreen ، وعندما يحل الغروب تتوقف الساعة في النبات، وقد ينام النبات كما يفعل البشر. والساعة النباتية يتم التحكم فيها بالجينات والبروتينات مثل ساعة البشر تقريباً.
ويقول ماتو أن هذه الدراسة قد تساعد العلماء على اكتشاف الطرق التي يمكن بها مساعدة النباتات على إنتاج غذاء أكثر وبكفاءة أكبر. أننا عندما ننظر إلى الآلية التي تعمل بها ندرك مدى الروعة والدقة والتعقيد الذي إن دل فإنما يدل على إبداع الخالق {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}.. (النمل : 88).