الثاني: قوله: «فدعا بتور» التور: بالتاء المثناة: الطست والطست- بكسر الطاء وبفتحها وبإسقاط التاء- لغات.
الثالث: فيه دليل على جواز الوضوء من آنية الصفر والطهارة جائزة من الأواني الطاهرة كلها إلا الذهب والفضة للحديث الصحيح الوارد في النهي عن الأكل والشرب فيهما وقياس الوضوء على ذلك.
الرابع: ما يتعلق بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء: قد مر.
وقوله: «فمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات» تعرض لكيفية المضمضة والاستنشاق بالنسبة إلى الفصل والجمع وعدد الغرفات والفقهاء اختلفوا في ذلك فمنهم من اختار الجمع ومنهم من اختار الفصل.
والحديث يدل- والله أعلم- على أنه تمضمض واستنشق من غرفة ثم فعل كذلك مرة أخرى ثم فعل كذلك مرة أخرى وهو محتمل من حيث اللفظ غير ذلك وهو أن يفاوت بين العدد في المضمضة والاستنشاق مع اعتبار ثلاث غرفات إلا أنا لا نعلم قائلا به مثال ذلك: أن يغرف غرفة فيتمضمض بها مرة مثلا ثم يأخذ غرفة أخرى فيتمضمض بها مرتين ثم يأخذ غرفة أخرى فيستنشق بها ثلاثا وغير ذلك.
من الصور التي تعطي هذا المعنى فيصدق على هذا أنه: تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من ثلاث غرفات.
الخامس: قوله: «ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا» قد تقدم القول فيه.
وقوله: «ويديه إلى المرفقين مرتين» فيه دليل على جواز التكرار ثلاثا في بعض الأعضاء.
واثنتين في بعضها وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا وبعضه ثلاثا وبعضه مرتين وهو هذا الحديث.
السادس: قوله: «ثم أدخل يده في التور فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» فيه دليل على التكرار في مسح الرأس مع التكرار في غيره وهو مذهب مالك وأبو حنيفة وورد المسح في بعض الروايات مطلقا وفي بعضها مقيدا بمرة واحدة.
وقوله: «فأقبل بهما وأدبر» اختلف الفقهاء في كيفية الإقبال والإدبار على ثلاثة مذاهب أحدها: أن يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه ويذهب إلى القفا ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبدأ الشعر في حد الوجه وعلى هذا يدل ظاهر قوله: «بدأ مقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه» وهو مذهب مالك والشافعي.
إلا أنه ورد على هذا الإطلاق- أعني إطلاق قوله فأقبل بهما وأدبر- إشكال من حيث إن هذه الصيغة تقتضي أنه أدبر بهما وأقبل لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبار ورجوعه إلى جهة الوجه إقبال.
فمن الناس من اعتقد أن هذه الصيغة المتقدمة التي دل عليها ظاهر الحديث المفسر وهو قوله بدأ بمقدم رأسه الخ.
وأجاب عن هذا السؤال بأن الواو لا تقتضي الترتيب فالتقدير: أدبر وأقبل.
وعندي فيه جواب آخر وهو أن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية أعني: أنه ينسب إلى ما يقبل إليه ويدبر عنه فيمكنه حمله على هذا ويحتمل أن يريد بالإقبال: الإقبال على الفعل لا غير ويضعفه قوله: «وأدبر مرة واحدة».
ومن الناس من قال: يبدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى جهة الوجه ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على ظاهر قوله: «أقبل وأدبر» وينسب الإقبال: إلى مقدم الوجه والإدبار: إلى ناحية المؤخر.
وهذا يعارضه الحديث المفسر لكيفية الإقبال والإدبار وإن كان يؤيده ما ورد في حديث الربيع أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمؤخر رأسه فقد يحمل ذلك على حالة أو وقت ولا يعارض ذلك الرواية الأخرى لما ذكرناه من التفسير.
ومن الناس من قال: يبدأ بالناصية ويذهب إلى ناحية الوجه ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية.
وكأن هذا قد قصد المحافظة على قوله: «بدأ بمقدم الرأس» مع المحافظة على ظاهر قوله:«أقبل وأدبر» فإنه إذا بدأ بالناصية صدق أنه بدأ بمقدم رأسه وصدق أنه أقبل أيضا فإنه ذهب إلى ناحية الوجه وهو القبل.
إلا أن قوله في الرواية المفسرة: «بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه» قد يعارض هذا فإنه جعله بادئا بالمقدم إلى غاية الذهاب إلى قفاه وهذه الصفة التي قالها هذا القائل تقتضي أنه بدأ بمقدم رأسه غير ذاهب إلى قفاه بل إلى ناحية وجهه: وهو مقدم الرأس.
ويمكن أن يقول هذا القائل- الذي اختار الصفة الأخيرة-: إن البداءة بمقدم الرأس ممتد إلى غاية الذهاب إلى المؤخر وابتداء الذهاب من حيث الرجوع من منابت الشعر من ناحية الوجه إلى القفا والحديث إنما جعل البداءة بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى القفا لا إلى غاية الوصول إلى القفا وفرق بين الذهاب إلى القفا وبين الوصول إليه فإذا جعل هذا القائل الذهاب إلى القفا من حيث الرجوع من مبتدأ الشعر من ناحية الوجه إلى جهة القفا: صح أنه ابتدأ بمقدم الرأس ممتدا إلى غاية الذهاب إلى جهة القفا.
وقد تقدم ما يتعلق بغسل الرجلين والعدد فيهما أو عدم العدد.
والرواية الأخيرة: مصرحة بالوضوء من الصفر وهي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة وهي مصرحة بالحقيقة في قوله: «تور من صفر» وفي الرواية الأولى مجاز أعني قوله: «من تور من ماء» ويمكن أن يحمل الحديث على: من إناء ماء وما أشبه ذلك.
10- عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله».
عائشة رضي الله عنها تكنى أم عبد الله بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه اسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي التيمي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب بن لؤي.
توفيت سنة سبع وخمسين وقيل ثمان وخمسين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث.
والتنعل: لبس النعل والترجل تسريح الشعر قال الهروي: شعر مرجل أي مسرح وقال كراع شعر رجل ورجل وقد رجله صاحبه: إذا سرحه ودهنه.
ومعنى التيمن في التنعل: البداءة بالرجل اليمنى ومعناه في الترجل: البداءة بالشق الأيمن.
من الرأس في تسريحه ودهنه وفي الطهور البداءة باليد اليمنى والرجل اليمنى في الوضوء وبالشق الأيمن في الغسل والبداءة باليمنى عند الشافعي من المستحبات وإن كان يقول بوجوب الترتيب لأنهما كالعضو الواحد حيث جمعا في لفظ القرآن الكريم حيث قال عز وجل: {وَأَيْدِيَكُمْ}, {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6].
وقولها وفي: (وفي شأنه كله) عام يخص فإن دخول الخلاء والخروج من المسجد يبدأ فيهما باليسار وكذلك ما يشابههما.
11- عن نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل».
وفي لفظ لمسلم رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل».
وفي لفظ لمسلم: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».
الكلام على هذا الحديث من وجوه.
أحدها: قوله المجمر بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية وصف به أبو نعيم بن عبد الله لأنه كان يجمر المسجد أي يبخره.
الثاني: قوله: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين» يحتمل غرا وجهين أحدهما: أن يكون مفعولا ليدعون كأنه بمعنى يسمون غرا والثاني- وهو الأقرب- أن يكون حالا كأنهم يدعون إلى موقف الحساب أو الميزان أو غير ذلك مما يدعى الناس إليه يوم القيامة وهم بهذه الصفة أي غرا محجلين فيعدي «يدعون» في المعنى بالحرف كما قال الله عز وجل: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران: 23] ويجوز أن لا يتعدى «يدعون» بحرف الجر ويكون «غرا» حالا أيضا والغرة: في الوجه والتحجيل في اليدين والرجلين.
الثالث: المروي المعروف في قوله صلى الله عليه وسلم: «من آثار الوضوء» الضم في الوضوء ويجوز أن يقال بالفتح أي من آثار الماء المستعمل في الوضوء فإن الغرة والتحجيل: نشآ عن الفعل بالماء فيجوز أن ينسب إلى كل منهما.
الرابع: قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» اقتصر فيه على لفظ الغرة هنا دون التحجيل- وإن كان الحديث يدل على طلب التحجيل أيضا- وكأن ذلك من باب التغليب لأحد الشيئين على الآخر إذا كانا بسبيل واحد وقد استعمل الفقهاء ذلك أيضا وقالوا: يستحب تطويل الغرة وأرادوا: الغرة والتحجيل.
وتطويل الغرة في الوجه: بغسل جزء من الرأس وفي اليدين: بغسل بعض العضدين وفي الرجلين: بغسل بعض الساقين وليس في الحديث تقييد ولا تحديد لمقدار ما يغسل من العضدين والساقين وقد استعمل أبو هريرة الحديث على إطلاقه وظاهره في طلب إطالة الغرة فغسل إلى قريب من المنكبين ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كثر استعماله في الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فلذلك لم يقل به كثير من الفقهاء ورأيت بعض الناس قد ذكر: أن حد ذلك: نصف العضد ونصف الساق اهـ.
.باب الاستطابة:
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث».
الخبث- بضم الخاء والباء- جمع خبيث والخبائث: جميع خبيثة استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم.
أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام- فتح الحاء والراء المهملتين- أنصاري نجاري خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وعمر وولد له أولاد كثيرون يقال: ثمانون ثمانية وسبعون ذكرا وابنتان وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وتسعين وقيل: سنة خمس وتسعين وقيل: كانت سنه يوم مات: مائة وسبع سنين.
وقال أنس: أخبرتني ابنتي أمنة: أنه دفن لصلبي- إلى مقدم الحجاج البصرة- بضع وعشرون ومائة.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدهما: الاستطابة: إزالة الأذى عن المخرجين بحجر وما يقوم مقامه مأخوذ من الطيب يقال: استطاب الرجل فهو مستطيب وأطاب فهو مطيب.
الثاني: الخلاء بالمد في الأصل: هو المكان الخالي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم كثر تجوز به عن غير ذلك.
الثالث: قوله: «إذا دخل» يحتمل أن يراد به: إذا أراد الدخول كما في قوله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98] ويحتمل أن يراد به ابتداء الدخول وذكر الله مستحب في ابتداء قضاء الحاجة فإن كان المحل الذي تقضى فيه الحاجة غير معد لذلك- كالصحراء مثلا- جاز ذكر الله في ذلك المكان وإن كان معدا لذلك- كالكنف- ففي جواز الذكر فيه خلاف بين الفقهاء فمن كرهه فهو محتاج إلى أن يؤول قوله: «إذا دخل» بمعنى إذا أراد لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح أو لأنه قد تبين في حديث آخر المراد حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الحشوش محتضرة فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل»- الحديث وأما من أجاز ذكر الله تعالى في هذا المكان: فلا يحتاج إلى هذا التأويل ويحمل دخل على حقيقتها.
الرابع: الخبث بضم الخاء والباء جمع خبيث كما ذكر المصنف وذكر الخطابي في أغاليط المحدثين روايتهم له بإسكان الباء ولا ينبغي أن يعد هذا غلطا لأن فعلا- بضم الفاء والعين- يخفف عينه قياسا فلا يتعين أن يكون المراد بالخبث بسكون الباء ما لا يناسب المعنى بل يجوز أن يكون- وهو ساكن الباء- بمعناه وهو مضموم الباء نعم من حمله وهو ساكن الباء على ما لا يناسب المعنى فهو غلط في الحمل على هذا المعنى لا في اللفظ.
الخامس: الحديث الذي ذكرناه من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الحشوش محتضرة» أي للجان والشياطين بيان لمناسبة هذا الدعاء المخصوص لهذا المكان المخصوص.
2- عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا».