وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الافتراق في الحكم وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا كما في الحديث الذي ذكره المصنف.
ومنها: أن الحديث المذكور الذي خصت فيه التربة بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض أعني قوله صلى الله عليه وسلم: «مسجدا وطهورا» فإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته فالمنطوق مقدم على المفهوم.
وقد قالوا: إن المفهوم يخصص العموم فتمتنع هذه الأولوية إذا سلم المفهوم هنا وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة أعني تخصيص العموم بالمفهوم ثم عليك- بعد هذا كله- بالنظر في معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض بينه وبين العموم في محله.
الأمر الثالث: أخذ منه بعض المالكية: أن لفظة طهور تستعمل لا بالنسبة إلى الحدث ولا الخبث وقال: إن الصعيد قد يسمى طهور وليس عن حدث ولا عن خبث لان التيمم لا يرفع الحدث هذا أو معناه وجعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة فم الكلب لقوله صلى الله عليه وسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبعا» فقالوا طهور يستعمل إما عن حدث أو خبث ولا حدث على الإناء فيتعين أن يكون عن خبث.
فمنع هذا المجيب المالكي الحصر وقال: إن لفظة طهور تستعمل في إباحة الاستعمال كما في التراب إذا لا يرفع الحدث كما قلنا فيكون قوله: «طهور إناء أحدكم» مستعملا في إباحة استعماله أعني الإناء كما في التيمم.
وفي هذا عندي نظر فإن التيمم- وإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث- لكنه عن حدث أي الموجب لفعله حدث وفرق بين قولنا إنه عن حدث وبين قولنا إنه لا يرفع الحدث وربما تقدم هذا أو بعضه.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: «فأيما رجل من أمتي أدركته لا صلاة فليصل» مما يستدل به على عموم التيمم بأجزاء الأرض لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل» صيغة عموم فيدخل تحته من لم يجد تراب ووجد غيره من أجزاء الأرض ومن خص التيمم بالتراب يحتاج أن يقيم دليلا يخص به هذا العموم أو يقول: دل الحديث على أنه يصلي وأنا أقول بذلك فمن لم يجد ماء ولا ترابا: صلى على حسب حاله فأقول بموجب الحديث إلا أنه قد جاء في رواية أخرى: «فعنده طهوره ومسجده» والحديث إذا اجتمعت طرقه فسر بعضها بعضا.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: «وأحلت لي الغنائم» يحتمل أن يراد به: جواز أن يتصرف فيها كيف شاء ويقسمها كما أراد كما في قوله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ويحتمل أن يراد به: لم يحل منها شيء لغيره وأمته وفي بعض الأحاديث ما يشعر ظاهره بذلك ويحتمل أن يراد بالغنائم بعضها وفي بعض الأحاديث: «وأحل لنا الخمس» أو كما قال أخرجه ابن حبان- بكسر الحاء وبعدها باء موحدة- في صحيحه.
السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت الشفاعة» قد ترد الألف واللام للعهد كما في قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] وترد للعموم نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وترد لتعريف الحقيقة كقولهم: الرجل خير من المرأة والفرس خير من الحمار.
إذا ثبت هذا فنقول: الأقرب أنها في قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت الشفاعة» للعهد وهو ما بينه صلى الله عليه وسلم من شفاعته العظمة وهي شفاعته في إراحة الناس من طول القيام بتعجيل حسابهم وهي شفاعة مختصة به صلى الله عليه وسلم ولا خلاف فيها ولا ينكرها المعتزلة والشفاعات الأخروية خمس إحداها: هذه وقد ذكرنا اختصاص الرسول بها وعدم الخلاف فيها وثانيتها: الشفاعة في إدخال قوم الجنة من دون حساب وهذه قد وردت أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ولا أعلم الاختصاص فيها ولا عدم الاختصاص وثالثتها: قوم قد استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم لها وهذه أيضا قد تكون غير مختصة ورابعتها: قوم دخلوا النار فيشفع في خروجهم منها وهذه قد ثبت فيها عدم الاختصاص لما صح في الحديث من شفاعة الأنبياء والملائكة وقد ورد أيضا: «الإخوان من المؤمنين يشفعون» وخامستها: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها وهذه أيضا لا تنكرها المعتزلة.
فتلخص من هذا: أن من الشفاعة منها ما علم الاختصاص به ومنها: ما علم عدم الاختصاص به ومنها: ما يحتمل الأمرين فلا تكون الألف واللام للعموم فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تقدم منه إعلام الصحابة بالشفاعة الكبرى المختص بها هو التي صدرنا بها الأقسام الخمسة فلتكن الألف واللام للعهد وإن كان لم يتقدم ذلك على هذا الحديث فلتجعل الألف واللام لتعريف الحقيقة وتنزل على تلك الشفاعة لأنه كالمطلق حينئذ فيكفي تنزيله على فرد.
وليس لك أن تقول: لا حاجة إلى هذا التكلف إذ ليس في الحديث إلا قوله: «وأعطيت الشفاعة» وكل هذه الأقسام التي ذكرتها: قد أعطيها صلى الله عليه وسلم فليحمل اللفظ على العموم.
لأنا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها صلى الله عليه وسلم فلفظها- وإن كان مطلقا- إلا أن ما سبق في صدر الكلام: يدل على الخصوصية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لم يعطهن أحد قبلي».
وأما قوله: «وكان النبي يبعث إلى قومه» فقد تقدم الكلام عليه في صدر الحديث والله أعلم.
.باب الحيض:
1- عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: «لا إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي».
وفي رواية: «وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة: فاتركي الصلاة فيها فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي».
الكلام على هذا الحديث عليه من وجوه:
أحدها: يقال: حاضت المرأة وتحيضت تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا- إذا سال الدم منها في نوبة معلومة وإذا استمر من غير نوبة قيل: استحيضت فيه مستحاضة ونقل الهروي عن ابن عرفة أنه قال: المحيض والحيض: اجتماع الدم إلى ذلك المكان ومنه سمى الحوض حوضا لاجتماع الماء فيه.
قال الفارسي في مجمعه- بعدما نقل ما ذكرناه- وهذا زلل ظاهر لأن الحوض من ذوات الواو يقال: حضت أحوض أي اتخذت حوضا واستحوض الماء: إذا اجتمع وسميت الحائض حائضا عند سيلان الدم منها لا عند اجتماع الدم في رحمها وكذلك المستحاضة تسمى بذلك عند استمرار السيلان بها فإذا أخذ الحيض من الحوض خطأ لفظا ومعنى فلست أدري كيف وقع؟
وما ذكره من جهة المعنى: فليس بالقاطع لأن تلك الحالة ليس يمتنع أن يطلق عليها لفظ الاجتماع لاسيما في بعض الأحوال.
الثاني: أبو حبيش بضم الحاء المهملة بعدها باء ثانية الحروف مفتوحة ثم ياء آخر الحروف ساكنة ثم شين معجمة وهو أبو حبيش المطلب بن أسد بن عبد العزى ووقع في أكثر نسخ مسلم عبد المطلب وذلك غلط عندهم والصواب المطلب كما ذكرنا.
الثالث: قولها: (استحاض) قد تقدم معنى الاستحاضة فيقال منه: استحيضت المرأة مبينا للمفعول ولم يبن هذا الفعل للفاعل كما في قولهم نفست المرأة ونتجت الناقة وأصل الكلمة: من الحيض والزوائد التي لحقتها للمبالغة كما يقال: قر في المكان ثم يزاد للمبالغة فيقال: استقر ويقال: أعشب المكان ثم يبالغ فيه فيقال: اعشوشب وكثيرا ما تجيء الزوائد لهذا المعنى.
الرابع: الطهارة تطلق بإزاء النظافة وهو الوضع اللغوي وتطلق بإزاء استعمال المطهر فيقال: الوضوء طهارة صغرى والغسل طهارة كبرى وتطلق ويراد بها: الحكم الشرعي المرتب على استعمال المطهر فيقال لمن ارتفع عنه مانع الحدث: هو على طهارة ولمن لم يرتفع عنه المانع: هو على غير طهارة.
فإذا ثبت هذان فنقول: قولها: (فلا أطهر) يحمل على الوضع اللغوي وكنت باللفظة عن عدم النظافة الدم لأن النساء لم يكن يستعملن المطهر في ذلك الوقت ولا هي أيضا عالمة بالحكم الشرعي فإنها جاءت تسأل عنه فتعين حمله على الوضع اللغوي ثم حقيقته: استمرار الدم وعليه حمله بعضهم ويمكن حمله على المبالغة ومجاز كلام العرب لكثرة تواليه وقرب بعضه من بعض.
الخامس: قولها: (أفأدع الصلاة؟) سؤال عن استمرار حكم الحيض في حالة دوام الدم وإزالته وهو كلام من قرر عنده: أن الحائض ممنوعة من الصلاة.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا إنما ذلك عرق» فيه دليل على أن الصلاة لا يتركها من غلبه الدم من جرح أو انبثاق عرق كما فعل عمر رضي الله عنه حيث صلى وجرحه يثعب دما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما ذلك عرق» ظاهره: انبثاق الدم من عرق وقد جاء في الحديث: «عرق وانفجر» ويحتمل أن يكون من مجاز التشبيه إن كان سبب الاستحاضة كثرة مادة الدم وخروجه من مجاري الحيض المعتادة.
السابع: في الحديث دليل على أن الحائض تترك الصلاة من غير قضاء وهو كالإجماع من الخلف والسلف في تركها وعدم وجوب القضاء ولم يخالف في عدم وجوب القضاء إلا الخوارج نعم استحب بعض السلف للحائض إذا دخل وقت الصلاة: أن تتوضأ وتستقبل القبلة وتذكر الله عز وجل وأنكره بعضهم.
الثامن: قوله صلى الله عليه وسلم: «قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها» رد إلى أيام العادة.
والمستحاضة إما مبتدأة وإما معتادة وكل منهما إما مميزة أو غير مميزة فهذه أربعة والحديث قد دل بلفظه على أن هذه المرأة كانت معتادة لقوله صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها» وهذا يقتضي أنها كانت لها أيام تحيض فيها وليس في هذا اللفظ الذي في هذه الرواية ما يدل على أنها كانت مميزة أو غير مميزة فإن ثبت في هذا الحديث رواية أخرى تدل على.
التمييز ليس لها معارض فذاك وإن لم يثبت فقد يستدل بهذه الرواية من يرى الرد إلى أيام العادة سواء كانت مميزة أو غير مميزة وهو اختيار أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.
والتمسك به ينبني على قاعدة أصولية وهي ما يقال إن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة عموم المقال ومثلوه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روي لفيروز وقد أسلم على أختين «اختر أيتهما شئت» ولم يستفصله هل وقع العقد عليها مرتبا أو متقارنا؟ وكذا نقول هاهنا لما سألت هذه المرأة عن حكمها في الاستحاضة ولم يستفصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كونها مميزة أو غير مميزة كان دليلا على أن هذا الحكم عام في المميزة وغيرها كما قالوا في حديث فيروز الذي اعترض به ثم يرد هاهنا أيضا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون عالما حال الواقعة كيف وقعت فأجاب على ما علم وكذا يقال هنا: يجوز أن يكون علم حال الواقعة في التمييز أو عدمه.
وقوله في رواية: «وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي» اختار بعضهم في قوله: «وليس بالحيضة» كسر الحاء أي الحالة المألوفة المعتادة والحيضة بالفتح المرة من الحيض.
وقوله: «فإذا أقبلت» تعليق الحكم بالإقبال والإدبار فلابد أن يكون معلوما لها بعلامة تعرفها فإن كانت مميزة وردت إلى التمييز فإقبالها بدء الدم الأسود وإدبارها إدبار ما هو بصفة الحيض وإن كانت معتادة وردت إلى العادة فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة وإدبارها انقضاء أيام العادة.
وقد ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذه ما يقتضي الرد إلى التمييز وقالوا: إن حديثها في المميزة وحمل قوله: «فإذا أقبلت الحيضة» على الحيضة المألوفة التي هي بصفة الدم المعتاد وأقوى الروايات في الرد إلى التمييز: الرواية التي فيها: «دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة».
وأما الرد إلى العادة: فقد ذكرناها في الرواية الأولى التي ذكرها المصنف وقد يشير إليه في هذه الرواية قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا ذهب قدرها» فالأشبه أنه يريد قدر أيامها.
وصحف بعض الطلبة هذه اللفظة فقال فإذا ذهب قذرها بالذال المعجمة المفتوحة وإنما هو بالمهملة الساكنة أي قدر وقتها والله أعلم.