.باب ما يلبس المحرم من الثياب:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس».
وللبخاري: «ولا تتنقب المرأة ولا تلبس القفازين».
فيه مسائل:
الأولى: أنه وقع السؤال عما يلبس المحرم فأجيب بما لا يلبس لأن ما لا يلبس محصور وما يلبس غير محصور إذ الإباحة هي الأصل وفيه تنبيه على أنه كان ينبغي وضع السؤال عما لا يلبس وفيه دليل على أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان ولو بتغيير أو زيادة ولا تشترط المطابقة.
الثانية: اتفقوا على المنع من لبس ما ذكر في الحديث والفقهاء القياسيون عدوه إلى ما رأوه في معناه فالعمائم والبرانس تعدى إلى كل ما يغطى الرأس مخيطا أو غيره ولعل العمائم تنبيه على ما يغطيها من غير المخيط والبرانس تنبيه على ما يغطيها من المخيط فإنه قيل: إنها قلانس طوال كان يلبسها الزهاد في الزمان الأول والتنبيه بالقمص على تحريم المخيط بالبدن وما يساويه من المنسوج والتنبيه بالخفاف والقفازين وهو ما كانت النساء تلبسه في أيديهن وقيل أنه كان يحشى بقطن ويزر بأزرار فنبه بهما على كل ما يحيط بالعضو الخاص إحاطة مثلى في العادة ومنه السراويلات بإحاطتها بالوسط إحاطة المحيط.
الثالثة: إذا لم يجد نعلين ليس خفين مقطوعين من أسفل الكعبين وعند الحنبلية لا يقطعهما وهذا الحديث يدل على خلاف ما قالوه فإن الأمر بالقطع هاهنا مع إتلافه المالية يدل على خلاف ما قالوه.
الرابعة: اللبس هاهنا عند الفقهاء محمول على اللبس المعتاد في كل شيء مما ذكر فلو ارتدى بالقميص لم يمنع منه لأن اللبس المعتاد في القميص غير الارتداء واختلفوا في القباء إذا لبس من غير إدخال اليدين في الكمين ومن أوجب الفدية جعل ذلك من المعتاد فيه أحيانا واكتفى في التحريم فيه بذلك.
الخامسة: لفظ المحرم يتناول من أحرم بالحج والعمرة معا والإحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما وقد كان شيخنا العلامة أبو محمد بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدا ويبحث فيه كثيرا وإذا قيل له إنه النية اعترض عليه بأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه وشرطه الشيء غيره ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن والإحرام ركن هذا أو ما قرب منه وكان يحرم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء.
السادسة: المنع من الزعفران والورس وهو نبت يكون باليمن يصبغ به دليل على المنع من أنواع الطيب وعداه القائسون إلى ما يساويه في المعنى من المطيبات وما اختلفوا فيه فاختلافهم بناء على أنه من الطيب أم لا؟.
السابعة: نهي المرأة عن التنقب والقفازين يدل على أن حكم إحرام المرأة يتعلق بوجهها وكفيها والسر في ذلك وفي تحريم المخيط وغيره مما ذكر- والله أعلم- مخالفة العادة والخروج عن المألوف لإشعار النفس بأمرين.
أحدهما: الخروج عن الدنيا والتذكر للبس الأكفان عند نزع المخيط.
والثاني: تنبيه النفس على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها وذلك موجب للإقبال عليها والمحافظة على قوانينها وأركانها وشروطها وآدابها والله أعلم.
2- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخطب بعرفات «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل» يعني للمحرم.
فيه مسألتان:
إحداهما: قد يستدل به من لا يشترط القطع في الخفين عند عدم النعلين فإنه مطلق بالنسبة إلى القطع وعدمه وحمل المطلق هاهنا على المقيد جيد لأن الحديث الذي قيد فيه القطع قد وردت فيه صيغة الأمر وذلك زائد على الصيغة المطلقة فإن لم نعمل بها وأجزنا مطلق الخفين تركنا ما دل عليه الأمر بالقطع وذلك غير سائغ وهذا بخلاف ما لو كان المطلق والمقيد في جانب الإباحة فإن إباحة المطلق حينئذ تقتضي زيادة على ما دل عليه إباحة المقيد فإن أخذ بالزائد كان أولى إذ لا معارضة بين إباحة المقيد وإباحة ما زاد عليه وكذلك نقول في جانب النهي: لا يحمل المطلق فيه على المقيد لما ذكرنا من أن المطلق دال على النهي فيما زاد على صورة المقيد من غير معارض فيه وهذا يتوجه إذا كان الحديثان- مثلا- مختلفين باختلاف مخرجهما أما إذا كان المخرج للحديث.
واحدا ووقع اختلاف على ما انتهت إليه الروايات فههنا نقول: إن الآتي بالقيد حفظ ما لم يحفظه المطلق من ذلك الشيخ فكأن الشيخ لم ينطق به إلا مقيدا فيتقيد من هذا الوجه وهذا الذي ذكرناه في الإطلاق والتقييد: مبنى على ما يقوله بعض المتأخرين من أن العام في الذوات مطلق في الأحوال لا يقتضي العموم وأما على مثل ما نختاره في مثل هذا العموم في الأحوال تبعا للعموم في الذوات: فهو من باب العام والخاص.
الثانية: لبس السراويل إذا لم يجد إزارا يدل الحديث على جوازه من غير قطع وهو مذهب أحمد وهو قوي هاهنا إذ لم يرد بقطعه ما ورد في الخفين وغيره من الفقهاء لا يبيح السراويل على هيئته إذا لم يجد الإزار.
3- عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيهما: (لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل).
التلبية: الإجابة وقيل في معنى لبيك إجابة بعد إجابة ولزوما لطاعتك فثنى للتوكيد واختلف أهل اللغة في أنه تثنية أم لا فمنهم من قال: إنه اسم مفرد لا مثنى ومنهم من قال: إنه مثنى وقيل: إن لبيك مأخوذ من ألب بالمكان ولب: إذا قام به أي أنا مقيم على طاعتك وقيل: إنه مأخوذ من الباب الشيء وهو خالصه أي إخلاصي لك.
وقوله: «إن الحمد والنعمة لك» يروي فيه فتح الهمزة وكسرها والكسر أجود لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة فإن الحمد والنعمة لله على كل حال والفتح يدل على التعليل كأنه يقول: أجيب لهذا السبب والأول أعم.
وقوله: «والنعمة لك» الأشهر فيه: الفتح ويجوز الرفع على الابتداء وخبر إن محذوف وسعديك كلبيك قيل: معناه مساعدة لطاعتك بعد مساعدة والرغباء إليك بسكون الغين فيه وجهان:
أحدهما: ضم الراء.
والثاني: فتحها فإن ضممت قصرت وإن فتحت مددت وهذا كالنعماء والنعمى.
وقوله والعمل فيه حذف ويحتمل أن نقدره كالأول أي والعمل إليك أي إليك القصد به والانتهاء به إليك لتجازي عليه ويحتمل أن يقدر والعمل لك.
وقوله والخير بيديك من باب إصلاح المخاطبة كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم».
وفي لفظ البخاري: «لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم».
فيه مسائل:
الأولى: اختلف الفقهاء في أن المحرم للمرأة من الاستطاعة أم لا؟ حتى لا يجب عليها الحج إلا بوجود المحرم والذين ذهبوا إلى ذلك: استدلوا بهذا الحديث فإن سفرها للحج من جملة الأسفار الداخلة تحت الحديث فيمتنع إلا مع المحرم والذين لم يشترطوا ذلك قالوا: يجوز أن تسافر مع رفقة مأمونين إلى الحج رجالا ونساء وفي سفرها مع امرأة واحدة: خلاف في مذهب الشافعي وهذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا وكان كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه بيانه: أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] يدخل تحته الرجال والنساء فيقتضي ذلك: أنه إذا وجدت الاستطاعة المتفق عليها: أن يجب عليها الحج وقوله عليه السالم: «لا يحل لامرأة»- الحديث خاص بالنساء عام في الأسفار فإذا قيل به وأخرج عنه سفر الحج لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال المخالف: نعمل بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فتدخل المرأة فيه ويخرج سفر الحج عن النهي فيقوم في كل واحد من النصين عموم وخصوص ويحتاج إلى الترجيح من خارج وذكر بعض الظاهرية أنه يذهب إلى دليل من خارج وهو قوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ولا يتجه ذلك فإنه عام في المساجد فيمكن أن يخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر في الخروج إليه بحديث النهي.
الثانية: لفظ المرأة عام بالنسبة إلى سائر النساء وقال بعض المالكية: هذا عندي في الشابة وأما الكبيرة غير المشتهاة: فتسافر حيث شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم وخالفه بعض المتأخرين من الشافعية من حيث إن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة والذي قاله المالكي: تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى وقد اختار هذا الشافعي: أن المرأة تسافر في الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة فتكون آمنة وهذا مخالف لظاهر الحديث.
الثالثة: قوله: «مسيرة يوم وليلة» اختلف في هذا العدد في الأحاديث فروى: «فوق ثلاث» وروي: «مسيرة ثلاث ليال» وروي: «لا تسافر امرأة يومين» وروي: «مسيرة ليلة» وروي: «مسيرة يوم» وروي: «يوما وليلة» وروي: «بريدا» وهو أربع فراسخ وقد حملوا هذا الاختلاف على حسب اختلاف السائلين واختلاف المواطن وأن ذلك متعلق بأقل ما يقع عليه اسم السفر.
الرابعة: (ذو المحرم) عام في محرم النسب كأبيها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها ومحرم الرضاع ومحرم المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها واستثنى بعضهم ابن زوجها فقال: يكره سفرها معه لغلبة الفساد في الناس بعد العصر الأول لأن كثيرا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله عز وجل النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب والحديث عام فإن كانت هذه الكراهة للتحريم- مع محرمية ابن الزوج- فهو مخالف لظاهر الحديث بعيد وإن كانت كراهة تنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفا إلى المعنى وقد فعلوا مثل ذلك في غير هذا الموضع وما يقويه ههنا: أن قوله: «لا يحل» استثنى منه السفر مع المحرم فيصير التقدير: إلا مع ذي محرم فيحل.
ويبقى النظر في قولنا: «يحل» هل يتناول المكروه أم لا يتناوله؟ بناء على أن لفظة يحل تقتضي الإباحة المتساوية للطرفين فإن قلنا: لا يتناول المكروه فالأمر قريب مما قاله إلا أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه وإن قلنا: يتناول فهو أقرب لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيا لما دل عليه اللفظ.
والمحرم الذي يجوز معه السفر والخلوة: كل من حرم نكاح المرأة عليه لحرمتها على التأبيد بسبب مباح فقولنا على التأبيد احترازا من أخت الزوجة وعمتها وخالتها وقولها بسبب مباح احترازا من أم الموطوءة بشبهة فإنها ليست محرما بهذا التفسير فإن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة وقولنا لحرمتها احترازا من الملاعنة فإن تحريمها ليس لحرمتها بل تغليظا هذا ضابط مذهب الشافعية.
الخامسة: لم يتعرض في هاتين الروايتين للزوج وهو موجود في رواية أخرى ولابد من إلحاقه بالحكم بالمحرم في جواز السفر معه اللهم إلا أن يستعملوا لفظة الحرمة في إحدى الروايتين في غير معنى المحرمية استعمالا لغويا فيما يقتضي الاحترام فيدخل فيه الزواج لفظا والله أعلم.