في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من 6.2 بليون شخص في هذا العالم فإنه من النادر أن تجد اثنين متماثلين تماما في نمطهم الجيني وبالتالي النمط الظاهري إلا في حالة التوأم وحيد الزيجوت ( التوأم المتشابه)، وبسرعة يتنامى إلى الذهن كيف يحصل هذا الكم الهائل من الصفات الظاهرية والمختلفة في البشر؟ وسيصبح واضحا بعد قليل أن خلف هذا الكم الهائل من الصفات عدد كبير من الجينات التي تتحكم في هذه الصفات، ويقدر عدد الجينات في الإنسان بمائة ألف جين ولا يقتصر عمل هذه الجينات على التحكم في الصفات الظاهرية كلون العين والشعر والجلد والطول بل هي مسؤولة أيضا عن تخليق البروتينات المكونة لجسم الإنسان والتي تتحكم أيضا في عملياته الحيوية.
والجينات محمولة على 46 صبغياً (كروموسوم) وهي موجودة في نواة كل خلية من خلايا الجسم ما عدا خلايا الدم الحمراء، وكذلك فإن الخلايا الجنسية؛ الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى – تحوي نصف هذا العدد من الصبغيات – فالحيوان المنوي يحتوي على 22 صبغيا جسدياً Autosom وصبغيًا واحدًا جنسيًا Sex-chromosome وهو إما صبغي (إكس) أو (واي).
أما البويضة فتحوي 22 صبغيا جسديًا وصبغيًا جنسيًا «إكس» ويتكون الكائن الحي من اتحاد الحيوان المنوي الذكري مع البويضة الأنثوية لتكوين الزيجوت الذي يحوي 46 صبغيا، وكل صبغي جسدي (لا جنسي) في الحيوان المنوي له ما يماثله في البويضة؛ أي أن الزيجوت يحتوي على 22 زوجا من الصبغيات الجسدية المتماثلة وصبغي «إكس» و «واي» في الذكر أو «إكس» و «إكس» في الأنثى وكل زوج من الصبغيات الجسدية متماثل في شكله وكذلك في نوع الجينات التي يحملها.
أي أن كل خلية تحوي نسختين من كل جين، نسخة على كل صبغي من الصبغيين المتماثلين وكل نسخة تسمى «أليل (Allele) ويمكن أن يكون الأليلان لجين معين متشابهين أي يعملان بصورة متماثلة فتكون الخلايا متماثلة الألائل homozygous لهذا الجين أو متباينة الألائل (heterozygous) إذا كانا مختلفين في عملهما كأن يكون أحدهما سليمًا والآخر أصيب بطفرة نتج عنه نتاج مختلف أو معطوب، وتعريف الأليل هام جدا لأنه سوف تبنى عليه فيما بعد أسس تحديد البصمة الوراثية.
وتتكون الصبغيات من خيطين لولبيين من الحمض النووي (دنا )DNA) (Deoxyribo nuclic acid) (متحدا مع أنواع معينة من البروتينات تساعده على التكثف داخل النواة، وكل خيط من الخيطين يتكون من سلسلة من الوحدات الأساسية وهي النوويدات (Nucleotides) مرتبطة ببعضها وكل نوويدة مكونة من قاعدة نيتروجينية إما ادينين أو جوانين أو ثايمين أو سايتيوزين متحدة مع سكر ريبوزي لا أكسجيني (deoxyribose) ومجموعة فوسفات وخيطا (الدنا) مرتبطان مع بعضهما بروابط هيدروجينية وفي الخيطين يرتبط الأدينين مع الثايمين، والسايتوزين مع الجوانين ليعطيا زوج قواعد أو زوج نوويدان.
ويحوي جين (Genome) الإنسان أي الصبغيات ما مجموعه 6×10 أس 9 زوجا من النوويدات بطول حوالي مترين، ولا بد لنا هنا من وقفة مع عظمة الخالق في تصور وجود خيط طوله متران من الـ ( دنا) هو طول الصبغيات الـ 46 داخل نواة خلية قطرها 0.000006 مليون من المتر وتقوم هذه الخيوط بالتكثف أثناء انقسام الخلية وتظهر كصبغيات متميزة يمكن رؤيتها بالمجهر الضوئي ومن ثم بعد الانقسام تستطيل إلى خيوط غير مرئية ويمكن لنا الآن تعريف الجين على أنه جزء من خيط الـ (دنا) في الصبغي أو سلسلة من سياق نوويدات وأن هذا السياق له وظيفة معينة ويمكن بذلك للصبغي أن يحوي آلاف الجينات.
ويختلف عدد الجينات على كل صبغي حسب طول الصبغي ويقدر عدد الجينات في الإنسان بمائة ألف جين، وهذه الجينات كافية لأن يتنامى الزيجوت (البويضة الملقحة) إلى شخص بالغ وللقيام بالعمليات الحيوية اللازمة للإعاشة، وكما تقدم فإن كل إنسان يحمل 46 صبغيا بها نفس الجينات الموجودة في أي إنسان إذن فما الذي يجعلنا مختلفين؟ السبب هو أننا حقيقة جميعا نحمل نُسخًا لنفس الجينات.
ولكن هذه النسخ تأخذ أشكالا مختلفة، كأن يكون أحدها يعمل بطريقة سليمة والآخر معطوب، أو بدرجة أقل كفاءة أو أن يعطي ناتجا مختلفاً وكما عرفنا سابقا أن الأشكال المختلفة لنفس الجينات تسمى آلائل (alleles) وأن هذه الأشكال المختلفة لنفس الجين والتي تتولد نتيجة تغيرات في سياق (دنا) الجين يكون نتاجها مختلفًا وبالتالي تولد أنماطا ظاهرية مختلفة، وهذا ما يفرقنا ويميزنا عن بعضنا البعض، فمثلا إذا أخذنا الجين المسؤول عن تكوين إنظيم معين، فطبيعي أن يوجد منه نسختان (أليلان) نسخة على كل صبغي من الصبغيين المتماثلين ويمكن أن يكون أحد الأليلين طبيعيا فيولد أنظيما طبيعيا والآخر أصيب بطفرة فيولد أنظيما غير طبيعي أو أقل فعالية.
وربما تسبب الطفرة خللاً في الجين تمنعه من تكوين الأنظيم على الإطلاق، ونفس الشيء يمكن أن يقال عن اختلاف الطول ولون العيون والشعر، فالشخص الذي تعمل الألائل المسؤولة فيه عن الطول بشكل طبيعي يكون أطول ما يمكن وإذا كان أحدها غير فعال فإن الطول يقل ويزداد الشخص في القصر مع ازدياد الألائل غير الفعالة، مع ملاحظة أن هذه الصفات يتحكم في كل واحدة منها أكثر من (جين) فالطول يتحكم فيه 10 جينات أو أكثر أي 20 أليلاً ولون الجلد 4 جينات أو ثمانية ألائل وبالتالي يكون الاختلاف نتيجة لاختلاف الألائل المتحكمة في هذه الصفة وبالتالي فإن الاختلاف في شكل الجين يتولد عنه اختلاف في الصفات الظاهرية أو العملية، وتعدد الألائل يسمى تعدد الأشكال الجينية Genetic Polymorphism.
وأوضح مثال على تعدد الألائل لنفس الجين هو جين الزمر الدموية A،B،AB،O فهذه عبارة عن مستضدات على غشاء الخلايا الدموية الحمراء والمسؤول عنها جين واحد وهذا الجين يمكن أن يوجد في البشرية على ثلاث هيئات (ثلاث ألائل) إحداها A وهذا الأليل يولد مستضد A من مستضد H والآخر أليل B يولد المستضد B والصورة الثالثة (O) وهذا الأليل لا يستطيع أن يولد أي مستضد وهذه الألائل لنفس الجين تتولد نتيجة طفرة جينية في نسق نوويدات خيط الـ (دنا) فيمكن أن تنتج طفرة نتيجة استبدال نوويدة أو أكثر بأخرى ليولد أليلا جديدا أو نتيجة إدخال أو إخراج نوويدة أو أكثر في خيط الـ (دنا) أو نتيجة انقلاب شدفة الـ (دنا) أو انتقالها من مكانها إلى صبغي آخر أو غياب شدفة معينة حاملة لجين أو أكثر وبالتالي ينتج عن هذه ألائل مختلفة لنفس الجين ربما تعطي نتاجا أقل فعالية من نتاج الجين (الأليل) الطبيعي أو غير فعال أو ربما لا تعطي أي نتاج، وينتج عن ذلك اختلاف في النمط الظاهري للشخص أو خلل وظيفي إذا كان الجين مسؤولاً عن توليد أنظيم أو هرمون معين.
ويجب أن لا يفهم أن كل طفرة ينتج عنها حالة مرضية لأن أكثر الطفرات تكون صامتة (silent mutation) لا يظهر لها أي تأثير ولا نعرف بوجودها لأنها تقع في أماكن في الجين لا تشكل منطقة حساسة لنتاجه، ويمكن أن يكون الاختلاف بين ألائل الجين الواحد بسيطًا جدا نتيجة تغيير نوويدة واحدة، أو كبيرًا جدًّا كتغير في عدد سياق الدنا التكراري (Repetitive DNA Sequence) وبالتالي فإن اختلاف الناس في صفة معينة هو تلقائي لاختلاف الجين الذي يتحكم في هذه الصفة وتواجده على أنماط مختلفة K وهذه التعددية في سياق (دنا) الجينات بين الناس هو الأساس في ظهور تقنيات البصمة الوراثية (Genetic Finger printing) أو بصمة الـ (دنا) أو نمط الـ (دنا) (DNA profiling) أو النمط الجيني (Genotyping) وجميعها تعني نفس الشيء ألا وهو نمط سياق الـ (دنا) المميز لكل شخص بحيث يمكن أن يفرد عن غيره، وما دمنا جميعا نحمل نفس الجينات فإنه من الطبيعي لتمييز فرد عن آخر البحث عن أشكال جينات، أو بمعنى أصح ألائل لهذا الشخص موجودة عنده ومختلفة أو غير موجودة عند الآخرين..
وهذا ما قاد العلماء إلى البحث في الـ (دنا) على مناطق تكون عالية التغيير (hypervariable) وبالتالي تحوي العديد من الألائل بحيث إنه يوجد بين السكان ألائل عديدة، وقلما يوجد شخصان يحملان نفس الألائل في البشرية كلها إلا في التوائم المتشابهة، هذا وقد نجح العلماء في إيجاد هذه المناطق المنشودة والعالية التغيير وتحديد أماكنها على الصبغيات، فكما ذكرنا أن في الإنسان حوالي 100.000 جين، وهذه الجينات تمثل جزءاً فقط من طول الصبغيات حيث أن الحمض النووي (دنا) الموجود في الصبغيات يكفي لعمل 2-5 مليون جين ولكن 3-5% فقط من هذا الـ (دنا) يشارك في عمل المائة ألف جين وباقي الـ (دنا) (95%) له دور في تنظيم عمل الجينات والصبغيات أثناء الانقسام النووي المباشر وغير المباشر للخلية وجزء كبير منه هو دنا تكراري، أي يتكرر من وحدات متكررة (Repetitive DNA).
وكل وحدة تكرارية عبارة عن سياق نوويدات حوالي 10 – 60 وبعض هذا التسلسل يتكرر من 100 إلى 100.000 مرة أي أنه يوجد من هذا التسلسل 100 إلى 100.000 نسخة ويسمى هذا دنا متوسط التكرر (Intermediate repeated DNA) وهناك سياق يتكرر مليون مرة وهذا يعرف بـ «دنا» عالي التكرر (Highly repetitive DNA) ويعرف هذا السياق المتكرر أيضا باسم المناطق مفرطة التغيير (Hypervariable regions،HVR) أو (دنا) تابع صغري (Minisatellites DNA) أو تكرر ترادفي متغير العدد (Variable number tandemrepeates ، VNTR) وكما ذكر فإن فرط التغير هو نتيجة التغير في عدد الوحدات التكررية وكل اختلاف في عدد الوحدات التكررية ينتج عنه أليل جديد وكلما زاد عدد الوحدات التكررية ازداد بالتالي عدد الألائل لهذا الموضع.
وهناك موضع عرف باسم D2S44 له أكثر من 70 أليلاً في البشرية ويوجد مئات بل آلاف من المناطق مفرطة التغيير منتشرة في عدة مواضع على الصبغيات وتوجد على الأخص على الذراع الطويل للصبغي رقم 1،9،12، وعلى طول صبغي «واي»، والسؤال عن الكيفية التي يتم فيها التعرف على نمط هذه الألائل في شخص ما، وبالتالي تمييزه عن الآخرين، والذي يمثل في حد ذاته الأساس للبصمة الجينية أو الوراثية أو هوية الـ (دنا) لكل شخص، والجواب بأن ذلك يتم عن طريق تقطيع خيوط الـ (دنا) لشخص ما إلى شدفات صغيرة ذات أطوال مختلفة ويتم ذلك بواسطة أنظيم حصري (Restriction endonuclease)
له القدرة على قطع الـ (دنا) في مواضع محددة فقط يمكنه التعرف عليها وهذه المواضع عبارة عن سياق من النوويدات تتراوح بين 3 - 6 نوويدات ويوجد العديد من هذه الأنظيمات يفوق عددها 200 أنظيم وكل منها له سياق (دنا) ثابت يتعرف عليه ويقطع عنده كلما وجده في خيط الدنا، وبالتالي يولد الملايين من شدفات الدنا مختلفة الأطوال ويمكن فصل هذه الشدفات بناء على أطوالها على هلامة بواسطة الرحلان الكهربائي.
وتأتي بعد ذلك المهمة الأصعب؛ ألا وهو التعرف على شدفات الـ (دنا) التي تحوي الألائل المراد دراستها وهي بين الملايين من الشدفات والبحث عنها كمن يبحث عن إبرة في كومة قش ولكن تقنيات ماشوب الـ (دنا) (Recombinant DNA Technology) قد سهلت الأمر حيث يتم استخدام تقنية تعرف بنشاف سذرن (Southern blot) وبدون الدخول في تفاصيل هذه التقنية فإنه يستخدم مسبار مشعع (radioactive probe) هو عبارة عن شدفة دنا صغيرة لها سياق نوويدات متممة للنوويدات في الجين أو الـ (دنا) المراد التعرف عليه، وبالتالي فإن المسبار كلما وجد شدفة (دنا) لها سياق متمم له اتحد معها.
وبما أن المسبار مشعع فإن شدفة الدنا التي تحوي الجين أو السياق المطلوب تصبح مشععة وبالتالي يمكن وبسهولة التعرف على الشدفات التي تحوي الجين المطلوب دراسته إذ يمكن رؤية هذه الشدفات بتعريض شدفات الدنا المفصولة إلى فيلم أشعة حيث يولد الجين أو الشدفة المشععة شريطًا أسود على الفيلم عند تظهيره.
وبالتالي تعمل البصمة الوراثية باستخدام مسبار مشعع طوله حوالي 10 - 15 نوويدة، ولهذا المسبار سياق متمم في المتكررات الترادفية في موضع واحد (single locus probe) أو أكثر (Multiple locus probe) وكلما درست متكررات ترادفية في مواضع مختلفة على طول الصبغيات، كلما زاد عدد شدفات الـ (دنا) أو الألائل المشاركة في عمل البصمة الوراثية وبالتالي كانت البصمة أكثر تحديدا ودقة، فإذا ما عرفنا أن نسبة تطابق نمط شدفة واحدة أو أليل بين شخصين في العالم هو 1/25 فإن دراسة نمط (دنا) به عشر شدفات أو ألائل يعطي احتمال تطابق هذه الشدفات لشخصين لا علاقة قرابة بينهما هو (1/25) أس 10 أو شخص في كل 10.48.576 شخص أي أن احتمال تطابق نمط الشدفات العشر مع شخص آخر هو واحد في المليون تقريبا.
وإذا ما درسنا نمط دنا به 18 شدفة فيصبح احتمال وجود شخصين لهما نفس النمط هو (0.25) أس 18 أو 1× 68.719.475.200 أو 1× 86 بليون تقريبا، وإذا ما عرفنا أن عدد سكان العالم هو 6.2 بليون فإن احتمال أن يتطابق نمطي (دنا) لشخصين غريبين عن بعضهما، هو احتمال معدوم، وإن هذا النمط هو نمط مميز للشخص الذي أخذ منه الـ (دنا)، ويمكن عمل البصمة الوراثية على (دنا) من أي خلية من خلايا الجسم ما عدا خلايا الدم الحمراء حيث لا يوجد بها «دنا» كأن يؤخذ من جذع الشعر (Bulb Hair Root)، خلايا الدم البيضاء المني Semen وجميعها تعطي نفس النمط الجيني أو البصمة الوراثية للشخص الواحد.
وتستخدم البصمة الوراثية في مجالات عديدة منها الطب الشرعي حيث يمكن الفصل في جرائم القتل والاعتداء الجنسي، حيث يصبح من المؤكد التعرف على صاحب البصمة إذا ما تطابقت بصمة (دنا) منهم مع بصمة الـ (دنا) التي تم العثور عليها من آثار الجريمة كأن تكون نقطة دم أو سائل منوي أو شعر المجرم وهنا لا بد من ذكر أنه مهما كانت كمية الخلايا المتوفرة في مسرح الجريمة ولو نقطة واحدة من الدم أو السائل المنوي فإنه يمكن إكثار الـ (دنا) المتوفرة فيها عن طريق تقنية تعرف باسم (تفاعل البوليميريز التكرري (Polymerase chain reaction) ليعطينا كمية من الـ (دنا) كافية لإجراء جميع الدراسات اللازمة.
إلى جانب هذا فإن البصمة الوراثية يمكن استخدامها في إثبات البنوة حيث لا بد من تطابق ألائل الطفل مع ألائل الأب والأم حيث إن نمط الـ (دنا) للطفل هو مركب مشترك من نمط (دنا) الأم ونمط (دنا) الأب، فجميع شدفات الدنا الموجودة في نمط الطفل حصل عليها من أبيه وأمه ولا بد أن يكون في الأب الحقيقي ما يماثل ألائل الطفل.
هذا إلى جانب التطبيقات العديدة في الطب كالتعرف على الطفرات الجينية وعلاقتها بظهور أمراض معينة أو ضرورة وجود أليل معين في حالات نقل الأعضاء وكذلك للتعرف على الكائنات الممرضة (pathogens) هذا إلى جانب التطبيقات الأخرى في مجالات الثروة الحيوانية والزراعة.