طعن السفهاء من الناس حين أمر المسلمون بالاتجاه نحو الكعبة في صلاتهم وقالوا: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}... [البضرة : 142]. مع ان اليهود كانوا يستقبلون المغرب والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فنزلت هذه الآية رداً عليهم مؤكدة ان حقيقة البر ليست في استقبال مشرق ولا مغرب، وإنما البر الذي ينبغي أن يهتم به العاقل، ويجدّ في تحصيله يتحقق بأمور اشارت اليها الآية الكريمة.
والبر لفظ جامع لخصال الخير التي تستهدف مرضاة الله عز وجل وقد أشارت الآية إلى هذه الخصال جميعاً تصريحاً أو تلويحاً وهي مع تعدد صورها تنحصر في ثلاث: صدق العقيدة، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس أشير إلى الأولى بالإيمان بما ذكر وإلى الثانية بإيتاء المال مصارفه وإلى الثالثة بإقامة الصلاة وما عطف عليها.
فالبر إيمان بالله وحده، ايماناً لا يرقى اليه شك، ولا يخالطه ريب، وهو ايمان باليوم الآخر، يوم تجزى كل نفس بما كسبت وايمان بالملائكة عباداً مكرمين وايمان بالكتب السماوية المنزلة على أصحاب الرسالات الإلهية بألسنة أقوامهم وايمان بالنبيين جميعاً بلا تفرقة بين أحد منهم.
والبر كذلك انفاق للمال على حبه في مصارفه المشروعة وصاحبه يخشى الفقر ويأمل الغنى والمراد بإيتاء المال، صدقة التطوع ومن مصارفه. المحاويج من ذوي قرابة المنفق واليتامى الذين فقدوا العائل، والمساكين الذين قست عليهم ظروف الحياة والمسافر ابن السبيل الذي تقطعت به أسباب العيش والسائلون الذين ألجأتهم الحاجة إلى ذل السؤال، وفي الرقاب المطلوبون ببعض المال لمواليهم حتى يتحرروا من أسر الرق. والبر كذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المفروضتين.
ثم تستطرد الآية في ذكر جوانب البر فتقول: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ} فمن البر الوفاء بالعهود التي لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، ومنه الصبر على عنت الحياة والاصطبار حين البأس كفاحاً للعدو في مواطن الحرب.
هذه هي حقيقة البر وخصاله، وصف المولى عز وجل أهل البر بالصدق نظراً لقوة ايمانهم واصالة اعتقادهم، ثم وصفهم بالتقوى نظراً لحسن معاشرتهم مع الخلق، - ومعاملتهم مع الحق - وعلى الصدق والتقوى يحثنا الرسول الأكرم بقوله: (من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان).